الأربعاء، 30 أكتوبر 2013
الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013
مقتطف من كتابي مأزق الادب اكتمال الوعي والانتحار - لم ينشر
مأزق الأدب اكتمال
الوعي والانتحار
نقد الجنون والانتحار
ان الشاعر أو الكاتب والرسام، يتخطى العلاقات المنطقية
في الحياة وينتج عالم مبنى على إرادة غير واعية، وهي اشتغاله الدءوب فى قذف حمم
دواخله بطاقة خارقة فى وجه المجتمع والسلطة السياسية، ويرش بدم جرحه خطايا الكائنات
ويمتزج وجودياً بهذا الكون، ويصبح خالق نص يتحد مع روح المتلقي وتظهر الصورة
الروحية للأشياء، لا احد وحده المبدع المختار الذي يشعر بالألم الباطني للروح، وحده
يسير بالحدس يصنع من أنسجته حياة للأخريين مغلفة بالمعاناة والعذاب، ويصل عبر هذه
المعاناة النفسية الغير عادية إلى مرحلة ما هو سابق على الإنسانية، انه الإبداع
الذي يتخطى به كل وسائل الإدراك الحسي والعقلي ولان المبدع فى حالة دائمة من
محاولاته فى القفز خارج العوالم المادية بإبعاده الاجتماعية والسلطوية لإنتاج معرفة جيدة الصنع فى
داخله، ثم يلفظها للحياة بعد النضج مولود يرفل بكماله، غير مشوه ويحتوي هذا المبدع
كل آلام المخاض والمعاناة التي تأتى مع مرحلة الولادة، مقابل جمال المولود القادم،
أنها اللغة التي هبطت مع الأنبياء والشعراء والكتاب والمتصوفة والقديسين، أنها لغة
الرواء الكونية التي تصادق المبدع فى دروب حياته الوعرة، ثم تمده بطاقة التعبير
والمعرفة والكشف، ويبدأ جنون المبدع عند دخوله ملكوت اللغة خاشعاً فى هذيانه، وبضربة
قلم أو ريشة أو عصا كمان يعلن انفصاله عن الواقع، ليبعث لنا ندا يفخخ بهي واقعنا إلى
حد الإرهاب يجعلنا نستلم إشارات البداية للمشاعر الخفية فى طبيعة الإنسان، أنها
بدائية المبدع البعث عن ماهية الوجود، والعودة إلى حقيقة الأرض والتحليق إلى
السموات السبع دون أجنحة، رغمٍ عن حذر ومبالاة المجتمع الذي أدخلته طروادة
الاستهلاك فى داخلها فأصيب بهذيان المرض، حتى أصبح مثل مدمن يبحث عن جرعات يسكن بها
هيجان جسده غير مبالي بالآخرين والمبدع حسب عالم النفس ( كارل غوستاف يونغ ) ان
النفس الإنسانية عمارة شامخة، تتألف من طبقات .... العليا هي الذات الفردية التي تستجيب
للتجارب الشخصية استجابة واعية، وهي طبقة الوعي، إما الطبقة الثانية طبقة اللاوعي
وفيها يترسب ما يسقط من الوعي، ولها صفة التجارب والذكريات الشخصية المنسية أو
المكبوتة، ويستمد المبدع حالة الإبداع من هذه الطبقات ويظهر وميض شعوره الدفين، ويفجر
طاقة من الإيحاء والغموض والامتلاء ليحول النص أو اللوحة إلى لذة غامرة غير عادية
فى تعاملها مع المجتمع، ولذة النص للمتلقي لها عدة ترجمات نصية متفاوتة يدرك العقل
الإنساني العنصر الواعي وحده إما دونه لا يدرك إلا باللاوعي أو بالحدس، مثال لذلك
الانبهار إمام لوحة أو قراه نص مؤثر أو الاستماع إلى موسيقي ساحرة،أشياء تجعل من
المتلقي فى حالة من النشوة، وهنا يكون المبدع فى حالة من الخلق لنص أو رمز فني قد
خلق ما هو سابق على الجنس البشري، متى ما كتب له الخلود فى الأرض لا يفني بفناء
فرد أو جيل، والمبدع بطبعه إنسان بدائي جماعي عشيري يحمل في دواخله النفس الإنسانية
بحيويتها، ليصنع لنا رمزاً لذاته تنزيهاً بوصفها المعني بالمدلول اللاهوتي الذي
يتعالى عن الصورة أو التجلي، أي بوصفها المطلق لذا نجد عند خليل حاوي الأرض
المولهة، وعند عبد الرحيم أبو ذكرى الشبابيك الفاتحة على السماء والكواكب والأفلاك،
إما الكاتب الأمريكي ارنست همنغواي لقد كدس فى ذاكرة الذات الفردية انتحار والده
واستخدم هذه الميتة لاحقاً، أنها أشبه بقصص تلك الأساطير التي تمنح فى موتها
ألافتدائي الفردي الحياة الجماعية للأمة، فيموت المبدع فرداً عن اختيار فتنبعث من
رماده امة تحمل فى رقابها دمائه خطيئة أبدية، والمبدع بطبعه شخصية عصابية محصنة
بالمعنى الواسع للكلمة، ترك ارث من التأثيرات الحاسمة فى الحياة، رغم نظرة المجتمع
انه كائناً انحلالياً عدميٍ مسحوقاً، يخلق لنفسه قطيعة مع المجتمع بمجرد انه اختار
مصيره مصير ان يمثل الحياة ويحمل على منكبيه خطايا الآخرين، ويصبح مبدع بالمعني
الوجودي حيث يتمطى الموت من كل أعضاءه مشلول مدمي عبثي بدون جدوى لا يرتكز على الإيمان،
يحمل جحيمه في يديه، ضحية اكتئابه وسأمه الملعون، ورغم ذلك لازال الجميع فى حالة إرجاع
للنص، والإرجاع هو تعريفاً هو قدرة الإشارة اللغوية فى عملية ألقراه على استدعاء
غيرها، وهى طاقة ارتجاعية غير محدودة فى النص، تعتمد على مدى كثافة الصورة على
مستوي البنية العميقة، وهذا التكثيف يجعل المبدع فى حالة من التوتر والبحث الدائم
ومطاردة رموز الكون باحثاً عن طاقة لتشكيل عالم جديد يتخطى بهي حدود العلاقات
المنطقية، إلى الإدراك الحسي ليرقص حول نصوصه رقصة ايقونية فينقل معرفته الداخلية إلى
الخارج، فاتحاً مدنٍ
ونماذج ذات مميزات دلالية مفعمة بلهيب عذاباته وبقايا من رماده المقدس،الخلق،البعث فيحتضن الكلمة الخالقة الإلهية التي هي صلة حميمية الموت عند الشاعر والقصيدة، والكاتب والنص والفنان ولوحاته الغرائيبية، كيف لكلمة واحدة تفوح برائحة الرصاص الكوني، يفتنها شحذ النشيد ؟ والمبدع يشتم القصيدة ويتبادل وإياها العصيان، التمرد،الصراخ التفكك أو هكذا كان يتوهم، يلاحقه الموت فى شوارع تتشكل فى شعوره يحفر فى الجبال إنفاقه وفى البحار اتساعه، يلحم المدن بالقرى، وفى لوحاته يستعيد بهجة العين، ومن موسيقاه شفافية الإذن وفى ذلك الزمن كانت الكلمة تستعد للتشبه الحزين فتهرب من دائرة السلطة سلطة الوجود لتفاجأ، بالأهانة، الشتم،التهديد، لم يكن ذلك المبدع يبالي لديه حياة اخري فى مكان أخر، يحتفظ بضحكاته الفظة لأوقات اخري حتى ينكفي ويسال ما الكلمة ؟ كيف اخرج من أدغالها ؟ إنا الممسوس اتبع صوتها مع دقات طبول ملك الموت، تطارده الكلمة، والجسد يهدده النزيف البارود، الإدانة مرسخة انه ألان سيد الجميع تستسلم له الكلمة، وادعة بين أحضانه تسترخي كالحلم... غير أنها ربما تكون أفخاخ الحلم، تنسل الكلمة مطاردة بقرات مرتفعة الصوت من العالم الأخر، ارنست همنغواي، آنا تسفيتيفا، فرجينيا وولف، فان غوخ، مايكوفسكى، خليل حاوي، عبد الرحيم أبو ذكرى، يصنعون عالم مقابل كلمة واحدة تصالح الجحيم، الإله والأرواح،الماء التراب، بماذا أذنب المبدع ؟ لأنه خلق من أحشاء الروح الحرة الهائمة فى الملكوت الأعلى، من اللقاء والتجريب، المغامرة، القلق، احتمال الشيء وضده، فيشب على ارضه المعزولة المنعزلة المنبسطة الخاوية، يحن إلى طائره الخرافي من الكلمات ليخلق أسطورته اليتيمة التي تبتغي الألفة لتشكل متعة صوفية المناخ وداء الانتحار، لازال المبدع يكتب، يرسم، يولف أعظم المقطوعات الموسيقية، لم يعد هناك ما يهم مادام لازال الآخرون لم يتمكنوا من اكتشاف الذات الحقيقية للإنسانية ولازال يصنعون من الكلمة الحروب والمجاعات، والحداثة المفرغة من المعني الاسمي لروح الإنسان،الكتابة هي الوحيدة التي تحاول ان تتحسس طريقها نحو اكتشاف الذات الإنسانية فى داخل الإنسان، الذي يحاول ان يستعين بفطرته وإحساسه الملموس، وتمسحه فى العوالم الخالدة لأنها تمنحه الوعي والإدراك، وتطور الإنسان يتم من حول المبدع كروتين عادي بمراحله المتعددة، والقصد هنا ( الانسلاخ الحضاري ) خارجة ومتوالدة من رحم الحضارات المتحركة، هكذا تتحرك العقلية المبدعة ومن هنا تنطلق حرفة الكتابة وهي حرفة وليس مهنة، لان الحرفة هي اكتشاف الحياة اليومية لمحيط المجتمع الواعي الحر فتفجر ينابيع الفكر والثانية ( ضروريات ) لوجود الأولى واستغلالية مفهومها الحر، هل تودي كل هذه التراكمات إلى انقسام نفسي فى المبدع فى محاولة لتحديد ذاته وكينونته إما تختلط عليه الأمور ؟ إما انه لم يعد يستطيع تحمل ألامه، تلك الآلام التي تكاد ان تهزم من لا يستطيع الشفاء منها، بعد ان يطرق جميع أبواب عقله بحثاً عن دواء شافي هل يزرف من قلبه دمعة ؟ هل يقتل كل أشيائه الجميلة حفاظاً عليها من الاحتراق فى ًًدواخله ؟ هل يلتئمن الجرح العميق إما يستأصله ويعود إلى الصراخ المؤلم ؟؟ هل تظل حياته حية بدور مليئاً بالمفاجآت المدوية ؟؟ يؤمن المبدع ان الحياة مثل النهر الجاري لا ثبات ملازم لقوانين الطبيعة وان الثبات السخيف على رأى واحد هو مرض العقول الصغيرة إما الأرواح العظيمة تستنكف هذا الثبات، لذلك ينطق المبدع بما يفكر فيه بألفاظ قوية رغم انه يثق تماماً بان يسأ فهمه، وهل من شر الأمور ان يسأ فهم المبدع ؟ لقد أسئ فهم فيتاغورس، وكوبرينكس، وغاليلو ونيوتن، وسقراط، ومارتن لوثر كنج، وكل روح طاهرة عظيمة عملت من اجل الإنسانية ولكي تكون عظيماً،لابد ان يسأ فهمك فقط لأنك خارج القطيع رغمٍ من أغرات مزمار الراعي السحري، ويهب الله لكل عقل الخيار بين الحقيقة والزيف، اختار منهما ما شئت لكن لن تظفر بالاثنين، من يختار الزيف لا يرى الحقيقة ومن يختار الحقيقة يظل جواباً بعيد عن كل مرفأ لا شي في النهاية مقدس، سوي نزاهة عقلك عندما نحرر أنفسنا يكون ذلك طمعاً في وجودنا الفاني، يؤيدنا فريق ويعارضنا فريق لذلك عندما يتمأهى المبدع ويقلد سقوط كلماته على النص، انه يصنع لنا رموزاً ايقونية تشكل بوميضها وضؤ من الحرية، أو على الأقل تفتح لنا كوة صغيرة على السماء وفي مرحلة الخلق هذه يكون المبدع فى اعلي حالة التمرد، يخلق أشيائه وهو محتفياً بجنونه أضحية عظيمة وقرباناً لإلهة الكلمة حتى تعفو عنه،فيصبح أكثر جمالاً وتصبح الكلمة أكثر حبٍ والتصاقاً بهي، ووسط هذا الطقس المقدس يأتي القلق والتوتر ليفخخ جسده بالانفجار، وفجأة تطير الشظايا أوراق، أقلام، جمل كالأحلام، ويخلق حربه المقدسة من اجل الفقراء والمظلومين،فيستنشق عبير الكلمات ويطير نحو السديم حاملٍ راياته وإعلامه، اعترافاً بقبول آلهة الكلمة لقربانه المقدس، فيخرج للحياة بسرد جنوني يدخل المفتاح يدير القفل ويترك حجرة الشعور تفيض بنورٍ الهي، يقف المبدع مباشرة فى عين الموت كأنه جرحاً يتدفق من مشكاة دماء،شاهداً الحرية متوضئاً بالنار، يعتق حروفه تطير نحو الفضاء مخلفة غباراً كونياً، يدثر كتاباته بلغته الوحشية، ولا شيء في عقله إلا جنون إبداعه، ليفضح أفعال الجريمة وأقنعة الطغيان، فلذة الكتابة لذة عنيفة مؤلمة، يسعى المبدع ورآها لأنها لا تطلب لذاتها بل لمتعة الحياة، ويصبح المبدع فى حالة من التماه وبهبوط النص يستعيد الفته نحو الاغتراب إلى عوالمه البعيدة، عالم الموت فيسمع النداء الروحي الخفي فيهبط القلق ويثقل كاهله بالحنين، ويدخل فى برزخ عالمه مخلفاً ورآه مجتمع الحياد والجهل، وغياب الوعي، مجتمع الأوهام، يقذف بنفسه خارج الكون، يبحث عن ذاته الغائبة ويطبق قانون الصيرورة والتحول عند ( هيراقليطس ) :- ليس بإمكانك ان تنزل النهر مرتين !! كل ما انفجر جسد مبدع بالموت أتى جسد مبدع أخر، يتماهي داخل عالم أسطورته حتى ينتهي إلى تاليه ( أناه ) وهو ليس قابلاً للانسجام مع الحياة، بوصفه كينونة غير مستقرة على منطق أو برهان، فتقترب روحه نحو ممارسة فعل الموت عن طريق الحصار، والعزلة والجدب فيعيد خلق فضاء يسمح له بإدارة سلسلة من إحداثه الروحية والنفسية، ويرسم موقعه الشخصي ليتجاوز منطق المعاناة والحياة ليواجه مصيره الوجودي، واختياره مكان وزمان طريقة الموت جزء من روية، سوأ كانت حدسية أو روحية أو مغلفة بغموض النمط البدائي للموت، الذي لا ينفصل عن نسق الروح الأولى التي ظلت تتناسخ في نصوص المبدع، وان وعي الكاتب انتهى إلى رؤى متضاربة لأنه يقف بمكان لا ينتظم في خطوط متوازية ذات إبعاد أحادية، العالم إمامه لم يعد يستحق الاحترام، فقط التوبيخ والتمرد مصارعاً ومجابهاً الضغوط الناشئة على هذا العالم بتقلباته الثقافية والسياسية والحضارية والاجتماعية، فضلاً عن الانسحاق الذي تواجهه الذات، بوصفها كينونة فردية والكتابة حالة لذات المبدع النفسية والجسدية، كالتعبير عن حدة أشواقه والنصح لمجتمع يتجه نحو هاوية من التناقضات، وكل هذه الأشياء تجعل من النص نصاً له إبعاده الرمزية والأسطورية شبه مبجل ومقدس، ودفعتني جميع هذه الإبعاد الفلسفية، إلى الإذعان والاستسلام إلى هذا الذي نسميه ( الموت بالإرادة ) إرادة المبدع، فانه لا يملك إرادة سوي مسالة أو مسالتين مسائل قطعية ومتأصلة عميقاً، ماعدا ذلك تجده متساهل إلى حد الضعف والحماقة، والسبب ربما تلك ألامبالاة الغريبة التي ترتكز على يقيني، بان الإنسان لا يعرف ما يفعل ! كما انه لا يعرف ما سيؤول إليه ،وإرادة شيء سرعان ما تصبح مصير ابدي، لن يصعب عليه ان يلوح على الأفق ... والمبدع فى حالة خلق النص، يصبح مشدوداً بين عالمه المنشود وعدمه، في حالة من الانتظار الفاعل إلى حد ان ذلك يجعله مرهفاً، على نحو فريد والى أقصي الحدود تجاه الكلمات والرموز، ويستمر بلا انقطاع في تنقيح وخلق عوالمه واستحضارها من دواخله الخفية الغامضة القادمة من المجهول، تأتي إلى إذنه قوة إنشادية مؤثرة، يتبعها همهمت ووساوس تبدو له غريبة، لكن محببة انه نزاع الرغبة ومشيئة القدر انه الموت بمشيئة الإرادة يزداد الهمس يصبح ممسوس يتحفز للحظة الرحيل إلى عالمه البدائي البري الساذج، ليعبر عن لا مبالاته اتجاه المجتمع، وهم يعالجون نصوصهم ويقدمون تأويلاتهم والمبدع دائماَ يشعر بالأم عظيمة وهو يمر بحالة ولادة النص، وهو يمتلك المهارة والقدرة المتحررة، ويصنع النص الفكرة فيجبر المجتمع على الاعتراف بأنه خطف من عبقريته المحتملة، بعضاً من إسرار إنتاج الجمال، ضرباً من خيال روضته الذكريات يشكل نصاً ابتدأ واحد من أخر ويرتقي في بنائه من نص إلى نص وصولاً إلى مرحلة الخلق، حيث تكون الحالة النفسية للمبدع فى مناظرة دائمة بين الحياة كواقع، وروحه الهائمة مع القدر كأنها اوركسترا تستيقظ آلاتها لتكلم بعضها البعض ناشدة تناغمها قبل بداية الاحتفال، ومن المعروف ان الحالة العامة تفرز أوضاعا سيئة، فتودي إلى ردود فعل معارض فيتمرد المبدعين بدرجات متفاوتة الوضوح أو يتقوقعون حول إعمال، تتجه نحو ميولهم إلى نقاء الحياة الإنسانية، وتحدث لهم صدمة اللقاء الأول لحياة قاسية ويدخلون فى حالة من الانعزال الفكري من الواقع، فيتجه نحو أساطيره وأحلامه ورموزه منتش بهمهمته، جميعهم اختاروا طريقهم نحو الموت،الحياة تبهر والسلطة تفرض، والحرية تسكر، والفوضى عدم أمان يخيف، ويجب ان لا ننسى ان كل مبدع يتميز بموهبة يصنف نفسه في سريرته، ارستقراطي من جنس خاص، كما انه لا يستطيع التماه مع الحياة العامة شأ أم أبى، ولهذه الحقيقة تبعات مختلفة الأوجه فقد يرى المبدع الديمقراطية التي تدعو إلى المساواة فى الأساس عاجزة عن إعالته، ويودي ذلك إلى احتقاره لرجال السلطة والشعب الخاضع لهم فيحتقرهم جميعاً، فيصاب باليأس ويشعر بإغراء الموت متمثل فى قيامه بدور القائد المفدي أو الأضحية،التي تقوم بدور التشظي من اجل الجميع لتحقيق حلمه الكبير، من اجل نقاء البشرية... فيهذب روحه بالانتحار ويهرب من إشكالية الضمير الإنساني المعقد، وينتبه عقله المسئول الأول عن تضحيته الغالية هذه سوأ كانت عبر نصوصه أو في حالة موته الغامض متشظياً ليصبح أسطورة تعبر حضارات ومدناً وسواحل، والمبدعين قديسين ًبنقاهم ودائماً ما ينتابهم إحساس الضياع وسط المعاناة وصعوبة الحياة، وسط الحروب والظلم والدكتاتوريات والحياة المفرغة من معنا الاستقرار النفسي للمجتمع المفجعة للأجيال الضائعة، الحياة مأساة وكذلك الأدب أعمق مأساة لان عبره نكشف الواقع بأخطائه القاتلة ولأنه يمثل لنا رؤية سوداوية للجهود الإنسانية، فالإنسان بطبعه الغريزي يتردد بين الألوهية والحيوانية، وهذا التردد يجعل المبدع مصاب بالأم العجز والشعور الكامل بالضعف إمام الموت ويتمسك بالغيب كقارب نجاة إمام الوجود، تقابله العبثية وخيبة الأمل والخوف والوحشة والملل، كيف يجد المبدع معنى للحياة ويحاول ان يعيشها بعنفوان وصدق وسط دوامة من الماسي اليومية ومن ان تتقبل روحه واقع المجتمع والحياة ؟ لا بد ان يمتلك هذا المبدع حريته الشخصية لاختيار مصيره، ولا يمكن ان يصبح منقاد وفرد من القطيع لمسارات وجودية وفكرية في المجتمع رسم لها الآخرون الطريق مسبقاً، ودائماً ما يصطدم المبدع بالمعايير التى وضعت من قبل الأنظمة الثقافية والدينية المتطرفة في المجتمع، بالإضافة لكبح جماحه من قبل السلطة الحاكمة بجميع أدوات القهر، رغمٍ من ان حلم المبدع ليس اكبر من الواقع، انه يحلم بالإصلاح والنهوض بالمجتمع من ركوده السياسي، والاقتصادي، والثقافي ،والاجتماعي، إلى حد قول الفيلسوف الانجليزي ( كيغارد ) الذي عده الكثير من النقاد مؤسساً للوجودية، وهو الذي يرى على حد الناقدة الانجليزية ( جوليا واتكن ) ( ان كل مولود في الكون له المقدرة على ان يكون كياناً صلباً وان يبدع في علاقته الخاصة بالمقدس ) وأيضاً حسب جوليا واتكن، فان ذلك المولود لا يتلبث ان يتعذب بفكرة الموت الذي سيلاقيه لا محالة لا محالة، لذلك فانه يغرق نفسه بانشغالات جمالية تصرف ذهنه عن نهايته المأساوية الموت، إلا انه و في كثير من الأحيان لا يستطيع ان يقهر عدو اكبر منه حجماً وحيلته هي الملل والكآبة المخيمين على افقه، ولقد قال ( كيغارد ) نفسه ( ان الملل والكآبة هو ظل من ظلال الشك، الذي ينمو حتى يفقد الإنسان أمله بالحياة ) مثلما وضع عالم النفس ( نيتشه ) أطروحته الفلسفية عن بنية الشخصية، وأهمها حين صرح بان ( تضاؤل الخلق الإنساني، بسبب عبوديته للقيم الزائفة ) التى يطلق عليها ( الأوهام ) ونفسر إذن ان روح المبدع تتحدى العوائق القيمة والحدود الفكرية والثوابت المعرفية، وهي تستكشف وتجرب وتدمر لتعيد الخلق، ويرفض المبدع الثوابت القيمة السائدة التى تكرس قدرية الذات وانصياعها التام لا رادة الأعراف والتقاليد، والمبدع يقدم نفسه للمجتمع على انه الملتزم بقضايا الإنسان وهمومه، وهو الرافض للانصياع للتابوهات ويقاوم التحديات التى تحاول ان تطيح بهي، ويعارض ويقاتل عبر انشغاله بخلق نصوصه وهو مدفوعاً بقوة خفية، يدخل اكبر عدد من القراء من خلال صياغته الشيقة، أو نصه المترع بالإشارات المعرفية المحرضة على تغيير الواقع المعاش، واثنا خلق المبدع لإبداعه هذا يدخل و يصاب بحالة من التماه بين واقع متوتر كئيب، وعوالم غيبية صادمة يسكنها الموت ذلك الكائن الحر الذي يسمو على الحياة، ويرفض ان يعيش مع الأنانية والغريزية التى تحملها النفس البشرية، لماذا يقترف المبدع الموت المحظور انتحاراً ؟ ويتركنا نطرح تساؤلاتنا بجرأة هذا النمط من الموت، ربما لان المبدع صاحب المهام الكبرى، يكتشف بنفسه حقائق النفس البشرية والكون والخالق من تلقاء نفسه بدون مرشد، ويوظف كل قدراته العقلية الفائقة في تحسسه الطريق نحو الخلاص، بعد ان يكشف عبر نصوصه حقيقة الكون والوجود، فتهيج دواخله وتعتمر في صراع عنيف بين نفسه الإنسانية و رؤاه الخيالية، فيرحل إلى عوالم أسطورية متخيلة قادرة على اكتشاف الحقيقة المطلقة واليقين الروحي، ويتم ذلك للمبدع عبر ملاحظته ظواهر العالم المحيط بهي منعكساً على ذاته ويصبح رمز مجازي لبطل يبحث عن الحقيقة ليجدها لا في حدود العقل، لكن عبر تجليات الذات المقدسة تلك الذات المتحدة مع الموت في عليائه، ليضع حداً لحياته بالعبث بقرينة الدم، همهمته طقوس نداء قادم من عمق عذابات الحياة يدخل في عزلة صوفي بنصه السردي الذي ينطوي على عدة مفاهيم متناقضة تصل إلى حد التصادم، فهناك إلتماس مباشر بين القيم واللأ قيم، وبين الجد والهزل، والماضي والحاضر، والأمل واليأس، وبين الجنة والنار، والأرض السماء،والحوارات الفلسفية و الحوارات السوقية، وبين المغامرات المتخيلة و والمغامرات الواقعية، وبين الأماكن الطاهرة وبيوت الدعارة و بين أوكار المجرمين والحانات، والمبدع في رحلة البحث هذه يصطدم عن وعي وقصد بتلك الأماكن والأجناس من البشر بين أقصى السمو وأقصى الانحطاط، ومن هذا المنطلق تبدأ نصوصه في وصف بلاغي يعكس فراديس الأمكنة أو جحيمها ويدخل المبدع في حالة من الهذيان، لتعكس الطبيعة السيكولوجية لهذا المبدع الممزق بين رغباته الغير ساكنة و المتناقضة التى تصل في حالات كثيرة إلى درجة الجنون والهذيان وانفصام الشخصية، وأخيراً يتبع هوى وساوسه فيتلاشى في العدم وهو يسخر من يسمون أنفسهم بالعقلاء، وبموته يفضح أسرارهم وينتهك محرمات السلطة والأعراف السائدة بشكل مرير ويضحك على ذقونهم، وبعد موت المبدع يبدأ المجتمع في نبش ذاكرته ليبحث عن حقيقة هذا المبدع، في أمكنة مختلفة وظروف غير منطقية وإحداثٍ غرائبية وغير قابلة للتصديق وبشكل خاطف وصادم، والمبدع كائن ذو شفافية يتألم ويتعذب وهو في قلب مأساة المجتمع فيخلق الأجناس الأدبية، ويسعي من اجل بلورة تعدد الأصوات، وتعدد الرؤى وتنوع النبرات التى تبعد الرتابة عن النص، وبحسب ( بأختين ) يجد ان النص في مشغلاته الأساسية يشبه تفاصيل النفس الإنسانية، ومحاكاة المبدع محاكة فلسفية لا تخرج من إطار النص، مثلما عبر عنه الكاتب ( مارسيل بروست ) في احدى رواياته، حيث تحدث عن مهنة الكتابة قائلاً : نعمل في السر، ونقوم بما نستطيعه، ونعطي ما نملك، وشكنا هو شغفنا وشغفنا هو عملنا، والباقي ينبع من جنون الفن... والكاتب أو المبدع ينقل نصه من الواقع بسردية حذرة أشبه بلوحة رسام متشظية ساكنة في غموضها، واقرب لنوتة أو جملة موسيقية غير تامة، ومهمة المبدع ان يلملم الصورة المتشظية نصاً يزاوج فيها واقع الحياة القاسي بسرده الشاعري داخل بنية النص الأدبي أو الفني ويضع إمامنا نظرية ( للاحتمال ) حتى ينحت لنا وجهاً استعارياً لأعطاب الحياة، ومن هنا نكتشف الثورة، والحب، وإيقاع الحياة، والايدولوجية، والعبث، والرغبة، والمفارقة، فيصهر المبدع رؤاه في اقصر صياغة سردية ممكنة، كي يكشف رفاهية الحياة وحتى رفاهيتنا أحياناً، لان الكتابة هاجس الفعل يومي بين بؤس الصورة والاحتمال، تكشف لنا الحياة بأعطابها ومفارقتها المرة، ويصبح الوعي شكلاً ثانياً لحالات التشظي التي تعيشها كينونة المبدع وداخل هذه الكينونة تنزاح ذات المبدع كي تعيد تشكيل الصورة الهاربة، لكنها تظل خاضعة لإرادة الفعل العقلاني للمبدع فيذهب بالنص إلى أقصي حالات البوح ان لم نقول ( التعري ) مادام الغرض هو تشكيل أعطاب ومفارقات الحياة، لان الحياة ميلاد أخر عند المبدع، أشبه بالسقوط الأول من رحم المصير الذي لا يبارح أحداً، ونحن في معارك الحياة يكون لدينا اختياراتنا تلك الاختيارات التي بعثت مع تلوين الحياة، ومن هنا تصطدم دهشة المتلقي مع أفق النص المفتوح أثناء عبوره إلى اللانهائي والمطلق بنبؤاته الغيبية الخفية، ويصبح المستقبل ملاذاً للطمأنينة ويضفي على حياتنا قواسم مشتركة بين كينونة المبدع و انبهار المتلقي إمام نص اقرب إلى المقدس، يتماها إمامه بهذيانه، ويرى المبدع نفسه من خلال هذه اللحظة صوفي يتجلى في ذاته، يشكل نصه وحيداً بمعزل عن العالم، كأنه ينسج بمنواله حريره بصبر، حيث يخط ويخلق نصوصه بخشوع، لغةً، وتركيباً، ومعجماً، وإيقاعاً للحياة، وهو في حالة من الانكسار الروحي، وحالة من الشك وهي حالات من الاستعارة على قدر النص في فخامته أو أمتلاه، وهو يستثمر قلقنا الانطولوجيا كي يشكله صيغاً وصورة و رؤى، ويتجدد النص لأنه شكل من إشكال المعرفة معرفة الحياة والإنسان وتجلي دهشة القراءة، وننتظر نحن على الضفة الأخرى من الحياة جمالية التلقي لنضع النصوص في الذاكرة ونقيس نبضها على مؤشرات طويلة المدى لإخصاب المعنى وتوليده، فنأذن باستمراره وصيرورته لان حالة الدهشة حالة نادرة، لأنها مرتبطة بحالة الإبداع أي الفعل الجمالي في الحياة اليومية، و انتحار المبدع يعتبر من مسؤولية المجتمع لان المجتمع يمجد الجهل واللامبالاة وغياب الوعي والأوهام، ويعتبر المبدع ان المجتمع يرفض وصياه ويعتبر الانتحار خلاصه الاكبر فيقذف بنفسه خارج كينونته ويتماه بصورة غير صورته، حتى ينتهي إلى تاليه ( أناه ) ويتصالح مع الذين سبقوه وعبروا جسور وذاتهم الغائبة، وبرحيله المساوئ التراجيدي من عالمنا يضعنا المبدع بين قوسين أو ادني من تساؤلات الوجود الغيبي، كأنه يريد ان ينبهنا على انه يكتب نصوصه بدماء قلبه على صفحات الورق البيضاء، و ليس بمداد حبر اسود على أوراقاً من كآبة الحياة، ينقب عن حقيقة الإنسان بعقله الواعي والغيبي لان المبدع صاحب فلسفة إنسانية تجعل من الوجود الإنساني الحقيقة الوحيدة في الكون، مثلما قال ( هيجل ) :- إذن ان الإنسان هو أكثر الموجودات واقعية وموضوعية في علاقاته الحسية بالعالم وأشيائه وموجداته ... ومن المعروف ان الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يقول ( أنا ) لأنه مخلوق متفرد غير قابل ان يحل محله موجود أخر، وهو الوحيد الذي له المقدرة على التمرد عن الحياة والخروج النهائي عن القطيع، لذا خلق النص عند المبدع ليس عملاً سهلاً ولا سلسلة من الكلمات، وليس كتاباً أو كلاماً بقدر ما هو موقف مباشر من التاريخ والثقافة ومن الإنسان والحاضر، ومثلما رفضت اروبا في القرون الوسطى المبدع لأنه يهدد إستراتجيتها المادية، رفضت أيضا الحضارة العربية في عصر الإسلام الشعراء وتوعدهم، لأنهم الغاوين الذين يكذبون، ولان العرب أتى إليهم الشعر في ثقافتهم لضعف الأنساق الثقافية الأخرى فاستعانوا في زمن البنية الشعورية الفارغة بلذة التخيل، لذلك اعتبر ان الشعر نكد بابه شر، ولان صاحبه حين يتوهج ويصبو فيطأ المحرمات ويعاقرها ويصبح من الكائنات الغامضة التى من مهمتها ان توسوس في الصدور، وتزين معاصي القول وتدفع الآخرين نحوه، رغم ان الرسول ( ص) اتخذ من الشاعر ( حسان بن ثابت ) شاعراً له ! إما المرأة العربية نظمت الشعر قبل الإسلام وفي العصر الإسلامي لكن كان النظام الأبوي هو المسيطر على الكيان الثقافي في تلك الفترة خاصاً الشعر، وإذا القينا نظرة على احدى مقولات أسلاف العرب لتأكد لنا ذلك، سئل الشاعر الفرزدق فلانة تقول الشعر، فقال :- إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فلتذبح ... ولعل قول أبي فراس يلخص موقف العرب من جميع النساء اللواتي نظمن الشعر، قال أبي فراس :- الشعر من أعمال الرجال، فما النساء وقريضه...! ومن المفارقات في المجتمع العربي في ذلك الوقت، ان تلك الفترة كانت من أخصب الفترات التي نظمن فيها النساء العربيات الشعر و وصلن إلى درجة الغزل الواضح والتشبيب بالرجال، وحتى ألان كتب التاريخ الأدبي تمتلئ بهؤلاء الشاعرات ! ولا زال المبدع شاعراً أو كاتباً أو موسيقى أو رسام، جمعيهم يحولون نصوصهم إلى لهب ويحتفوا بالوجود، والنبوة، والرؤيا، والعشق بالعشق، لو موتاً... الإنسان يولد فيسميه أبواه لكن من يسمي المبدع ؟ ان اسم المبدع يسقط عند دخوله طقس الإبداع، لأنه يدخل إلى هذا الطقس باعتباره أنساناً قادم من المجهول يبحث عن عشيرته في أركان سديم الكون، فيرحل إلى عالم الأموات ليدفع عنه خيانة الحياة، ويترك لنا إبداعه على جبين الواقع، ويعصي الزمان ويشيخ تحت ظلال السحر، فينتفخ بطاقة الجنون المقدس والإلهام والهذيان، فهو يتكلم عن نفسه ويجعل من روحه مرآته العاكسة التى احتوت في دواخله إبداعه، ثم صارت منفى لا سفر، ولا ارتحال، بل إقامة دائمة مبتورة الصلة بالعالم ليسخر من الذات والوجود، إنكاراً منه لواقع مهلهل ومرقع ومتهاوي، لأنه الوحيد الذي اختير من دون البشر لحذقه في إصابة الهدف ويمتاز بسرعة الخاطر، وحضور البديهة، وذاته هي سبب وجوده، ويرى الفيلسوف الانجليزي ( سورين كير كغارد ) ان حمل المبدع لا يستطيع الإنسان ان يحمله إلا بمساعدة الإيمان... رغم ان الإيمان لا يرفع الشك ولا القلق، كما انه لا يؤسس لامتلاك الفرد لذاته في علاقة مجتمعة كمثل علاقته بغربته، والكون الذي يجعله يقف دائماً إمام تساؤلات الوجود الكبرى، لان الوجوديين الذين تابعوا ضياع الإنسان، بسبب الحروب والكوارث التي يفتعلها الإنسان نفسه، الذي أصبح بلا مأوى وبلا جذور، وعاد الإنسان مرة اخرى يطالب الفلسفة بالعودة إلى السؤال حول الإنسان المهدد بتأثيرات وافدة إليه من الخارج، كالشعور الديني والفكر اللاهوتي والأسس الميتافيزيقية التى تحول الإنسان إلى صومعة لقوى خارجة عنه، ويختزل مصيره الفردي إلى وجود زمني عابر في العالم، بغير بصمة بغير اثر، كأنه لا يدين للوجود ولوجوده بشيء، كما عند الفيلسوف ( هنري برغسون ) عندما صرح :- الوجود هو نزعة نحو الحياة، وبناء الذات المتعالية أو الأنا الإنسانية، قبل الأنا الغيبية التى يجب إلا تختزل كل ( إنا ) سواها، فالمبدع يتعذب في داخله ويشعر بألم عظيم بسبب واقع مفضوح بفساده، فيهرب من هذا الواقع ويدخل إلى محراب جنونه ناسكاً يؤدي فروض ولاه إلى عالمه الأسطوري المتخيل، وان يحرق كل كتب التاريخ على اعتبار ان التاريخ يكتب مزوراً، ويهدم جميع أعمدة المجتمع التى بنيت على خطاء، وهو يحكي كوابيس الرعب ويناشد كل روح تواقة للحرية ان ترفع رأيتها، وتكمم أفواه الذين يدعون إلى تكفير العقل، والاغتيال الروحي، ويرفض عبثية مجتمع تنعدم فيه الحرية، فينشر سخافته ويقتال الثقافة ويغلق عقل المجتمع بإقفال من فولاذ، فالمبدع هو الإنسان الوحيد الذي تنعكس في صفاء روحه صور وجوه الجلادين والضحايا، فروحه عيون امة تدور في مآقيها معان لسخرية مهزومة، مثلما قال الفيلسوف ( كارل سبرز ) :- بين الآنية وبين الوجود الماهوي، يضعنا إمام واقعة أساسية حين يقول ( ان الإنسان هو الحقيقة الأساسية التي استطاع أدركها في العلم، فهو يتصف بالحضور والقرب والامتلاء والحياة، وفي الإنسان وبهي وحده يصبح كل ممكن واقعاً، لهذا فان إهمال الوجود الإنساني أو تغافله معناه الغرق في العدم ) ان مفهوم ( الذات ) يتضمن فى النهاية معنى الوجود الإنساني، الذي لا يتم التعرف إلا من خلال إدراكه إدراك الإنسان لذاته، من ثم إدراكه لما حوله بالوجود من موجودات، ومن ثم إدراكه لكل الوجود الذي من حوله، والذات في عرف أهل علم النفس بأنها جسم الفرد الذي يكون جزءاً منها لأنها قابلة للامتداد لتتضمن كل ما يدخل في مجال حياة الفرد، بيئته ، وآراؤه ، ومعتقداته ، وكل ما يمتلكه ليدافع عنه، والذات ليس قاصرة على الجسم، لكنها تتضمن المادية المعنويات، وتتكون الذات نتيجة التفاعل الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية، فالذات عبارة عن مجموعة من الاستجابات وردود الأفعال في الإنسان نفسه، إذن يستطيع كل جسد ان يحل محل جسد أخر، لذلك يتماه جسد المبدع في جسد أخر، أو نص مكان نص أخر، وهو خارج الواقع مثلما عند الشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى وقرينه الشاعر مايكوفسكى، والكاتب أرنست همنجوأى واستحضاره تلاشي رأس والده تحت اندفاع رصاصة، ويعني ذلك ان الذات لست جسد ومع ذلك منتمي لها وأليها، والنفس أو الروح الإنسانية ما هي إلا مجموعة من العواطف بشقيها الايجابي والسلبي، وما الغرائز إلا صدى انفعالات العواطف، وبعبارة اخرى أنها الحركات العضوية الناتجة عن الانفعالات العاطفية، ولا وجود للغرائز بدون عواطف ومن الممكن وجود عواطف بدون غرائز، وان الذات والأنا اسمان مرادفان لكلمة الروح، وعدم تصور وجود احدهما بدون الروح، وعدم تصور الروح بدون كل منهما، وإذا قلنا الروح فإنما نقصد العقل بملكاته العقلية الخمسة والنفس بعواطفها وغرائز عواطفها، وعلى هذا فالروح اشمل من العقل وحده وأوسع من النفس وحدها، ويربط بعض باحثين علم النفس فى مسألة النفس والروح وخباياها بمشكلة الإنسان والإلوهية، فالجسد والنفس هما المادة، والروح هي الأرض والسماء، المحسوس والمجرد، المخلوق والخالق، الفاني والسرمدي، كما يربطها بعض الباحثين من خلال بحثهم، بقضية الجسد الحي، وهي قضية الإنسان الأولى ومحاولاته بالتساؤل، ماذا نحن ؟، وما هي الحياة ؟، ومن أين أتينا ؟، وماذا سنكون ؟، وماذا سيحل بنا ؟، وما هو الفكر ؟، وما هي المادة التى يتكون منها الجسد ؟، وما هو مالها ؟، والمبدع أو الكاتب له الحرية في صياغة نصه لكي يعبر بدقة ووضوح متلازميتان عن الفكرة، التى يريد إيصالها إلى القاري، بحيث تكون اللغة بصفة خاصة مادة حاملة لهواجس الكاتب أو الفنان ومجسدا لرويته الفكرية، وينطبق التأكيد نفسه على الشخصيات في نص المبدع، من حيث هي تنظيم ديناميكي متكامل بتركيب موحد لخصائص نفسية وفكرية، تتجسد بسلوكها في الإحداث وبما يميزها اجتماعياً وفكرياً وسياسياً، وتظهر قيمتها من خلال تفاعل بيئتها الداخلية والخارجية، يعنى ذلك خضوع رؤية وإرادة المبدع وموقفه الفكري والوجودي والمعرفي، سواء كانت تلك الرؤية موجودة في الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي، إما اقتصرت على النص أو موقف المبدع من العمل الإبداعي نفسه، فالرؤية كما سنلاحظ وإثناء التطبيق لا تسفر عن الموقف الخاص للمبدع ازأ عالم نصه وشخصياته فحسب، بل وكذا موقفه من العالم أيضاً مثلما عند الأديبة الانجليزية فرجينيا وولف، كانت لها وحدها اللغة، مفتاح الولوج لتحقيق كل الإمكانيات الممكنة والمتاحة لهذا الكائن الجميل، فكأنها تتماها وتجسد بطولة شهرزاد، التي نطقت منذ زمن بعيد كي تواصل الحياة وتعمل على تثبيتها، وذلك فى زمن ما قبل الكتابة ( كتابة المرأة ) حيث لم تكن المرأة تحكي وتتكلم وتكتب، وشهرزاد حكت مدافعة عن حياتها وأثبتت ان الكلام اقوى من نصل السيف، لكنها كانت تواجه الرجل ومعه الموت إما فرجينيا وولف، كانت تواجه الموت وتطلق سراح الرجل الذي عشقته وتدافع عن قيمها الأخلاقية والمعنوية من جهة اخرى، كانت متعالية على قدرية الموت، وذلك باختيارها لموتها الشخصي وإرغام المجتمع على الاستجابة واحترام رغبتها، إذن دعونا نسال ما قيمة الحياة التى تجعل من القدر ان يلتهم ضحاياه الجاهزين للقائه والمستعدين لهدم جدار الدفاع عن حياتهم ؟ لقد كانت تنتظر منذ وقتٍ طويل غواية الموت، لان ما فعلته وولف كان هو خيارها الجيد، على الرغم من إدراكها المسبق بمأسوية خاتمتها، على حسب الرسالة التى تركتها لزوجها، أنها لا تأبه لذلك المصير المحتوم، فكل الأجساد تدور حول مدار الموت، لقد كانت شهرزاد تحكي، وتلعب، وتراوغ، وتغامر، من اجل الحياة، إما فرجينيا وولف كانت تفعل عكسها تحكي، وتغامر وتراوغ الحياة، وتشعر بالأم ولذة الكتابة من اجل ان تخلق حياة وتنزوي في موتها، ومن هنا نستدل على ان وجود المبدع، يرتبط بوجود حياة بشرية ثائرة متمردة على الأوضاع الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، المرفوضة والغير واقعية في نظر المبدع، كما أكد الباحثين أيضاً بان الحرية المطلوبة والمشتهاة هي الحرية التى تنتصر للإنسان، من حيث هو إنسان بكامل وعيه، وان السبيل إلى الحصول على تلك الحرية سوف يكلف المرء كل شيء غالي حتى لو حياته، وبالنسبة للمبدع لابد من الدخول في التجربة واختيار الطريقة التى يعبر بها عن مصيره، لذلك ان تحرير الذات لا يبدأ إلا باللغة ولا ينتهي إلا بها، وجميع هذه الانفعالات النفسية للمبدع، تجعل من تعيين الهوية أمراً واقع برغم من انجذاب المبدعين إلى طريقة الفناء والموت المأسوي التراجيدي، برغم ان اغلبهم قادمين إلى الحياة من خلفيات ثقافية وعرقية ودينية مختلفة، ويتمتعون بجاذبية أدبية عالمية، أنهم منغلقون على فكر واحد مشتهي للغير والميل إلى التمرد من الحياة وخلق الثورات، مع تجاهل اختلافات الأمزجة، والمبدع يشعر في مجتمع الظلم والإقصاء بنوع من الاغتراب الروحي بسب النفور والنقد الموجه ضده، وهي بمثابة استعارة لعمليات الاستبعاد، والتى يحاول من خلالها الكيان العقلي والجسدي للمبدع للتطهر منها، والأغرب ان النظام والسلطة السياسية والثقافية والاجتماعية تحاول مراراً وتكراراً ان تدخل المبدع إلى ضالة المنحرفين أو السيكوباتين وان تستأصله من الحياة، ان المبدعين فئة خدمت المجتمع الإنساني بقيادة بصيرته نحو حريته وإلزامه على احترام العقل الإنساني، واصبح المبدع ذاكرة لمجتمع منغمس ومشبع بالعادات والتقاليد البالية، والنفاق والرياء، والقيم البطريقية ذات الصبغة الذاتية، مجتمع غير قابل للعلاج بالصدق والحب، والرغبة بالتغيير والوظائف والأدوار الجوهرية كنموذج أو معيار للسلوك المنفتح نحو حياة نقية، ونجد ذلك فى المسيرة الفوضوية التى عاشتها الشاعرة الروسية أنا تستيفيتا والرسام الهولندي فان غوخ، وما يحملانه نحو الحياة من ثورة انتقام عبر الجنس، وإظهار للصفات الإنسانية المكبوحة لجسد الأنثى والجسد ألذكوري، من خلال الممارسات الإباحية فى مسيرة حياتهم تلك الحياة التى تم اكتسابها من تذويب ذاتهم فى مجتمع رفض التعامل معهم، ويحاول ان يكبت ذاكراتهم الإبداعية، بتعبيراتها الظاهرية وبصورة عشوائية مهلكة ويضع إمامهم آليات الموت، فى حالة من الاستعداد والتحفز من نظام مركزي يميل في التربية والتنشئة على التبعية، مجتمع يفاخر دائماً بقوة ثقافته الخاوية التى تتحدى وترفض التطبيع مع عقلية المبدع، وترفض أي نقاش حول ايديولوجيا واستراتيجيات الاحتجاج والرفض والشكوى، حتى لو كان ذلك عبر نص أو لوحة أو أي إبداع أخر، ومثلما لدي عالم النفس ( فرويد ) ان العمل الأدبي والفني عموماً وكذلك الأحلام والإعراض العصبية يتكون من محاولة رغبات أساسية متخيلة كانت إما وليدة عالم الفنتازية، ومن المعلوم ان الرغبة لا تكون رغبة ما لم يحل بينها وبين الإشباع عائقاً ما، كالتحريم الديني أو الحظر الاجتماعي أو المنع القائم على العرف والعادات والتقاليد، وهكذا يحول ( الرقيب ) بين الرغبة وإشباعها سواء كان هذا الرقيب هو الوازع الديني أو الأخلاقي أو العرفي الاجتماعي، ولهذا فان الرغبة الحبيسة تستقر في مملكة اللاوعي من عقل الفنان أو الأديب ،و الإنسان عموماً، لكنها تجد لنفسها متنفساً أو قد يسمح لها الرقيب بأن تشبع نفسها خيالياً من خلال صيغ محرفة، وأقنعة من شانها ان تخفي طبيعتها الحقيقية وتخفي موادها عن ( الأنا ) الواعية، ومع ظهور أهمية القارئ وانحسار دور المؤلف أصبح العمل الأدبي أو الفني يعيد القارئ أو المتلقي بناء ومعايشته للنص، ولما كانت العلاقة بين القارئ والنص علاقة نشطة ومتبادلة، فان كل قارئ سيجلب إلى النص تجربته الشخصية أو نموه العاطفي ورؤيته الخاصة، ولذلك أصبح من الضروري تحليل وتفسير هذه القراءة ذاتها لأنها هي بدورها أصبحت نصاً له دلالاته النفسية، وهذا الطرح هو بطبيعة الحال امتداد، لقضية علاقة النظرية بالتطبيق وانهيار الفواصل بين النظرية والممارسة في النقد المعاصر، ويعيش المبدع في دونية بعد شعوره بالرفض، مثال لذلك القرافيتي ميشيل باسكويا الذي عاش حياته مشرداً في عالم المجاري الأرضي، ذلك الفنان المبدع العبقري الذي تحمل ضربات المجتمع الموجعة، رغم انه كان يمتلك الذات التى امتلكت مقومات التصوير عبر إحساسه المرهف، بخيالاته وصوره المختلفة في شكل من إشكال الخلق والإبداع، مثلما كان يصرح علماء النفس دائماً، ان الباعث الأوحد على لحظة الإبداع ونقطة بدايتها، ان أحاسيس البشر جميعاً يحركها الفرح، كما تحركها المعاناة والدهشة أيضاً، فتفجر براكين الإحساس داخل ذات المبدع، وتنفجر معها طبقات الوعي ومن هذا الانفجار يتولد الإبداع، فكانت كل جرعة مخدر عند ميشيل باسكويا تأتي إليه بسؤال الدهشة، ثم تأتي مرحلة الاختزال التى تضج بالمشاهد المكثفة، كان يحقن نفسه بجرعة من الحياة وليس الموت، لأنه كان يرحل إلى أقصى الحدود إلى عوالم، الحيرة، القلق، والألم الجميل، والتحسر الذي يقوده نحو اكتمال المشهد، ويصبح فى مطاردة يومية وفى محاولة لامساك بذلك الشيء الهارب المنفلت من الذاكرة، من أقصى حدود الذاكرة، ويستمر فى محاولاته هذه وترسل الروح فلاشها لترسم نيابةٍ عن المبدع، لكنه يحتاج لمحرك ذاتي باعتبار ان النص قابع في دواخله، ويكرر ذلك السقوط ألمتماه محبباً إلى نفسه لعبة التداول هذه، لقد أعلن الناقد الفرنسي ( رولان بارت ) ان البحث عن ينابيع عمل ما ليس إلا استجابة لأسطورة النسب ( فكل نص يرجعنا بطريقة مختلفة إلى بحر لا نهائي وهو المكتوب من قبل ) لان الأنا التى تقترب من النص هي في الواقع مجموعة متعددة من النصوص الأخرى، ذات شفرات لا نهائية أو بالأحرى مفقودة الأصول ضاعت مصادرها، وعند الشاعر اللبناني خليل حاوي ان اللغة الشعرية لديه لغة منفتحة على مرجعيات مختلفة، تدخل في علاقات سيميائية تقوم على الحوارية الأسطورية، لقد قام خليل بتحديث الرمز التموزي والمسيحي،وهو استخدام التموزي دلالياً للرمز المسيحي، بما يحمله من تقديس ألأرمني، مثلما نجده في شعر ( محمود درويش ) الذي يعتبر مطوراً واستمرارياً للقصيدة التموزية، ومولهاً الأرض ومنزها بوصفها ( المعنى ) بالمدلول ألاهوتي، الذي يتعالى عن الصورة أو التجلي أي بوصفها الخالق أو المطلق، وعند حاوي نجد تواتر هذا الاستخدام (الميتافيزيائي ) الانطلوجي للأرض بوصفها قوة إلهية كونية، تستوعب في بنيتها الشعرية الرمزية الديناميكية، إسقاطات الموقف القومي الحضاري ومعاناة الشاعر فى ضوئه للكونية، لقد تأثر حاوي بالاتجاه (الشخصاني) النامي في الحركة السورية القومية الاجتماعية، ذات الاهتمامات الفلسفية،وبوصفه شاعراً نبياً جماعياً أو رئياً يتكلم بلغة الرموز الأصلية، وهذا التعيين يجد نفسه وبصورة معقدة فى تجربة ( الزوبعة ) التى رمزت إلى حركة الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي انخرط فيه حاوي وكتب قصائد ( النهر والرماد ) أو أناشيده كما كان يعبر عنها، إبان انفصاله المفجع الموجع عن الحزب على حد تعبيره، كان يشعر بالخيانة والمهانة وبفشل التئام الجرح العربي زاده توتر وقلق وانعزال، وأصيب بالخزي والعار في تلك الليلة المتشائمة على العرب باجتياح إسرائيل لوطنه، دخل في صدمة من الصمت مندهشاً لانتحار وطن ومثلما لعلع الرصاص في شوارع بيروت متحدثاً لغة العنف والقتل، انطلقت رصاصة نحو صدغه بصوتها المفجع لتحاور وترد إلى الجماعة أسئلتهم الوجودية، كان يحب الوطن مثل حبه للمسيح عليه السلام مجسداً مقولته ( من أحب أباً أو أخاً أو أماً أكثر مني لا يستحقني ) ومن هنا هتف حاوي في ( الناي الجريح ) ممتصاً قول السيد المسيح :- ربي متى انشق عن أمي أبي / تلك التى تحيى على انتظار... والمبدعين كائنات شفافة من الجنس البشري، وأصحاب ذوات فردية تعصف بهم الأهواء والنوازع وترهقهم الخيارات، لهم معاناتهم الخاصة والشخصية، وان جميع نصوصهم تشكل لنا مفازة كبيرة من تقاطعات الأسئلة، فتفتح إمامنا أثيمات عديدة ومن أهمها، القهر، العبودية، المعاناة، الحب، لان الكتابة عالم الذاتية ومرآتها وان الشخصية الكاتبة تحرر في نصوصها وتحلق عوالم جديدة، مثلما عرفت الناقدة الفرنسية ( جوليا كرستيفا ) المبدع بأنه جهاز نقل لساني، يعيد توزيع نظام اللغة واضعاً الحديث التواصلي، ونقصد المعلومات المباشرة فى علاقة مع ملفوظات مختلفة سابقة أو متزمتة. وان ذات الكاتب لا تصل إلى متلقي أو القاري إلا عبر النص، وتقييم النص لا يكون إلا عبر القاري، ولا يكون للكاتب وظيفة كاتب إلا بوجود النص المدهش، خيالياً أو واقعياً ، يمكن ألان ان نستنتج بهدوء بان البحث في مجاهل نفس وروح المبدع، بحث إشكالي يتصل اتصالاً قوياً بمنابع الأسئلة الكبرى عن الوجود والماهية، كما يتأسس الكلام عنها ليتسع ليشمل بعد ذلك الكلام عن التجربة الشخصية، المبنية على التفرد والفردانية كوجود خاص متميز، ومقدرة تلك الشخصية ان تختار إمكانيتها فى الوجود، فالإنسان هو الإمكانية، بمعنى إمكانية ان يكون ما يشاء وفي الوقت الذي يختار، فليست المسالة إذن هي كيف إنني كائن في هذا العالم، بقدر ما هي المسالة ان أكون ما إنا عليه كائن حقاً، دون ان يشوب هذا التأكيد أي تفضيل قيمي، انطلوجي، أو أخلاقي، وهنا يصرح المفكر ( والتر بنجامين ) الذي بدأ قريباً من مدرسة ( فرانكفورت) ثم ما لبث ان اختلف معهم في موقفه ازا دور الحداثة في المجتمع الرأس مالي، وفي مقاله الشهير بعنوان ( العمل في عصر إعادة الإنتاج الإلية ) عام 1936 قال ( حدثت ثورة في علاقة الفن بالجماهير لان العمل الفني والأدبي لم يعد مقصوراً على فئة محدودة، من الموسرين والأثرياء تستطيع اقتناه، ولم يعد الفن أسير الطقسية التى ارتبط بها منذ الحضارة اليونانية، والتي اتخذت إشكالا متعددة في المجتمعات الحديثة، منها نزعة الفن من اجل الفن، وينطلق أيضاً المفكر الروماني ( لوسيان غولدمان) صاحب مدرسة ( البنيوية التكوينية) أو التوليدية من حيث الفصل الذي يقيمه ( لوكاش) بين حياة الكاتب وما يقوله النص، مؤكداً ( انه كلما كان العمل تعبيراً صادراً من مفكر أو كاتب عبقري، أمكن فهمه في ذاته، بدون ان يلجا المؤرخ إلى سيرة الكاتب ا والى نواياه ) هذا الكاتب العبقري،هو الذي لا يحتاج إلا لتعبير عن حدسه ومشاعره، لكي يعبر في ألان نفسه عما هو جوهري، بالنسبة للتحولات التي يتعرض لها ومن هذا المنطلق، أمكن للعمل الأدبي أو الفني ان يحمل شكل الواقع الخارجي عبر تركيبته أو بنيته ذاتها، إما ( نورمان هولاند ) فيرى ان عملية القراءة وتفاعل القاري مع النص هي عملية علاجية، إذا يكتشف القاري في الأدب ( موضوع الهوية ) الخاصة بهي، ويتعرف على رغباته ودوافعه وذاتيته، وهكذا تنتقل الرغبة من النص إلى وعي ولا وعي القاري، وبهذا يكون النص خدم المؤلف في التعبير عن رغباته ودوافعه، وخدم القاري الذي يطاوع ويكيف النص حتى يحقق مهمته الخاصة، وهناك أيضاً آخرون يرون بان هناك علاقة نفسية بين طبيعة الشعر واللغة أو بين علاقات التداخل النصوصي للشعر والشعراء، فيرى ( هارولد بلوم ) ان العلاقة بين شاعر قديم مؤثر، وشاعر جديد تابع هي علاقة ( اوديبية ) علاقة الأب بالابن، تتسم بالسيطرة، ولنا في ذلك خير دليل الشاعر السوداني عبد الرحيم أبو ذكرى الذي يتماها مع أيقونات الشاعر الروسي فلاديمير مايكوفسكى ووصل إلى مرحلة التلاشي في دواخله، لقد كانوا هولا الشعراء يعيدون إنتاج الموت عن رغبة، لقد رثى مايكوفسكى مواطنه الشاعر ( سيرغي يسبنين ) عقب انتحاره عام 1926 بقصيدته المشهورة / كومة عظام متهاوية / تبدو في ناظري جداول حمراء/ تفيض من شريانك المقطوع / ولكن قف كفي هل أنت في كامل عقلك ؟ / حتى تترك كلس الموت يكسو خديك...... وفي مساء 13 ابريل 1930 سدد فلاديمير مايكوفسكى فوهة مسدسه نحو جبينه ثم ضغط على الزناد، كان قد فرغ لتو من تسطير وصيته الأخيرة، هل شغف مايكوفسكى بسيرغي عجل في رحيله إما لأنه شاعر يتوق إلى العوالم الخفية ؟ وهل حب أبو ذكرى وتأثره بكتابات مايكوفسكى جعله يصبح وجع الإبداع السوداني لدي الروس ؟، الأغرب ان عبد الرحيم ابوذكرى رثى الشاعر العراقي ( بدر شاكر السياب ) متوجعاً موته ورحيله الطبيعي، وذلك فى قصيدته ( موت الغريب على الخليج ) ويخاطبه قائلاً :- وأنت ليس عندك يا صديق الناس إلا هذه الرقدة / وكنت النسر حلق تحت وقد الشمس / وسار إلى مسيل الشمس الضوء وابتردا / . وكتبت هذه القصيدة في عام 1965، ورحل أبو ذكرى إلى سديم الموت مطارداً خيال معلمه وملهم ايقونياته الأسطورية، دون ان يسمع احد حفيف الأجنحة اعتلى السموات التى تفور، ولأنجم المتلاطمة ووجد قرينه فى شمس الفراديس، علينا ان نملا الفضاء صراخاً مع رفيق دربه الأستاذ كمال الجزولي، لكن لماذا مايكوفسكى ؟؟، وكثيراً من الأدباء تطرقوا إلى مجاهل الروح الإنسانية، وحاولوا فك رموزها بكل التقنيات السيكولوجية، ومن بين هولا الكتاب الكاتب البرازيلي ( باولو كويلهو ) الذي يأتي اسمه مباشرةٍ فى الأهمية بعد مواطنه ( غابريل غارسيا ماركيز )، ولد في ( ري ودي جانيرو ) فى عام 1947 عمل في الإخراج المسرحي وكتب أغاني لمطربي البوب البرازيليين، واصدر أول عمل روائي، رواية ( الخيميائي ) ولقد ساهم هذا العمل في انتشاره عالمياً، وتقدمه ألان أمريكا كعمل سيمفوني، واصبح احد أهم الروائيين العالميين المعاصرين، وتتحول إعماله إلى أولى الظواهر الأدبية الحقيقية الواسعة الانتشار،ومنذ ان اصدر أول عمله هذا عام 1987 لقد انتشر بسرعة البرق في أكثر من 120 دولة وترجمت هذه الرواية إلى 45 لغة عالمية وبيع منها أكثر من 27 مليون نسخة وحازت على العديد من الجوائز الأدبية، وروائية ( فيرونيكا تقرر الانتحار ) هي العمل الأخير للكاتب الذي أراد هذه المرة ان يكشف القضايا والمسائل التي تتعلق بالحياة والموت، كما أراد ان يبرهن على الأسلوب الذي يمكن من خلاله الإنسان إلى الجنون و ( كويلهو ) ذات نفسه كان ادخل إلى مستشفي الأمراض النفسية والعقلية ثلاثة مرات، وهو لازال شاباً صغيراً لعلاجه من مرض عقلي قيل انه أصيب بهي، وكما يقول كويلهو :- ان عملي هذا يدور حول أهمية الاستماع إلى عواطفنا، كما انه مستوحى من تجربتي الشخصية، عندما كنت فى مطلع شبابي، أدخلت إلى مستشفي الأمراض العقلية لأنني كنت أريد ان أصبح كاتباً، وهذا ما كانت ترفضه أسرتي، لكنني قاتلت من اجل ذلك حتى تحقق لي ما أريد، لم أفكر قط في لوم احد من إفراد أسرتي، لكنني أدركت أهمية ان يكافح المرء من اجل تحقيق أحلامه، ان ( فيرونيكا ) هي رمز هذا الصراع وعندما أدخلت المستشفي المرة الأولى، كنت في السابعة عشر من عمري، ثم عدت إليها وانأ في الثامنة عشر، وبعد ذلك في التاسعة عشر من عمري، وكنت اقضي هناك فترات من الوقت، تتراوح ما بين العشرين يوماً والشهرين، ثم نجحت فى الهروب من هذا الكابوس، مع ذلك لم يسأورني يوماً ذلك الشعور، بأنني ضحية لان ما مكان يريده والدي هو تامين مستقبل لي، ثم يائسا من ذلك وخلاصة القول هي إنني لم اتبع الطريق الذي رسماه لي والدي، وفي النهاية تبين لهما إنني لم أكن مخطئاً فى تحديد مستقبلي فلاما نفسيهما، واراهن على ان السبب الرئيسي على مخاوفهم، كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كان تمر بها البرازيل، ان أكثر ما تميزت بهي رواية ( فيرونيكا تقرر الانتحار ) هو إسهامها في حدوث بعض التغيرات، فيما يتعلق بالقانون البرازيلي ودوره في الحياة العامة، وكويهلو يشير إلى ان الرواية وأياً كان البلد الذي تصدر فيه فلابد ان يودي ظهورها إلى إحداث بعض التغيرات، وبالنسبة لهذا العمل على وجه الخصوص، فان كويهلو لم يكتبه فى الأساس ليؤدي إلى تغيير القانون الخاص بالاعتقال التعسفي، لمن يشتبه في إصابتهم بأمراض عقلية، ومع ذلك كان لهذه الرواية دور كبير الذي تمثل في الإفراج عن مشروع قانون تأخر صدوره حوالي عشرة سنوات، يقضي بوجود طرف ثالث إلى جانب المستشفي المعالج، للتثبيت عن حالة أي مريض متهم بالجنون، وهذا التأثير لا يمكن ان يشعر المريض إلا بالرضى، إما فيرونيكا بطلة الرواية التي يشبه مصيرها مصير كويلهو فتقرر الانتحار، عندما تواجه بقوة ضغوط خارجية وتمارس ضعفها إمام هذه القوى التي لا تستطيع تغييرها ورغم نجاتها من الموت، إلا أنها تدخل إلى مصحة الأمراض العقلية، حيث تبدأ معاناتها بالسؤال حول معنى المرض العقلي وحول ما إذا كانت المعالجات والأدوية التي تعطي للمريض بالقوة والفعالية المثلى هل هي وسيلة لعقاب أولئك الذين لا تنطبق عليهم شروط الإنسان العادي، وكأي كاتب روائي فان كويهلو قد لجا لهذه المساحة القصصية من اجل تسريب شيء من الواقع، وإبطاله هم الأشخاص الشديدين حساسية ويمتلئون بالشكوك والمخاوف كما نفعل نحن تماماً، ونسال كما تسال فيرونيكا في النهاية :- هل عشت حياتي إلى النهاية ؟ هل حققت ما أصبو إلى تحقيقه ؟ ماذا افعل كي أساهم في الحياة بشكل أفضل ؟.... كلها أسئلة تقود في النهاية للتوصل إلى ان هذه الرواية ليست بصدد الإعلان عن الموت بل الإعلان عن الحياة، ورغم تعقد التحليل النفسي وتعقد قضياه، فان فرضياته التقليدية مازلت قائمة:- 1 هناك دائماً تفاعل بين حياة الكاتب والقارئ أو المحلل النفسي وبين رغباته وأحلامه وتخيلاته الواقعية والغير واقعية. 2 – يسعي التحليل النفسي دائماً إلى كشف أسباب ودوافع خفية عند المؤلف أو القارئ أو المحلل النفسي . 3 – معاملة الشخوص في العمل الأدبي أو الفني على أنهم أشخاص حقيقيون لهم دوافعهم الخفية، وتواريخ طفولتهم المتميزة، وعقولهم الواعية والغير واعية . لهذا تنحصر موضوعاته السائدة في النزعات الإجرامية و الأمراض العصبية، والذهان السادية، وتعذيب الذات، والانحراف الجنسي، وعلاقة الأب بالابن، أي العلاقة الأوديبية، ولتغطية مثل هذه المواضيع فان التحليل النفسي يفضل الروايات والمسرحيات على الشعر ..... وكتب ايضاً الطبيب المصرى/ مصطفى محمود كتابه ( اناشيد الاثم والبراءة ) الذي يحلل ويتحدث فيه عن الانتحار قائلاً :- فالانسان لا ينتحر الا في لحظة دكتاتورية مطلقة، وتعصب اعمى لا يرى فيه الا نفسه، والانتحار في صميمه اعتزاز بالنفس وتأله ومنازعة الله في ربوبيته، والمنتحر يختار نفسه ويصادر كل انواع الوجود الاخر، في لحظة غل مطلق في لحظة الم كالجحيم، ان السلوك الانتحاري هو سلسلة من الافعال التي يقوم الفرد من خلال تدمير حياته بنفسه، لأسباب انسانية مفزعة منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو حالة من الفراغ الروحي، واسباب اخرى تتعدى ذلك يربطها علماء النفس بحالة القهر والاذلال والتهميش المتعمد في المجتمع، وان اعلى حالات الانتحار توجد في الدول الاسكندافية، السويد – النرويج – الدنمارك، وتصل حالات الانتحار في هذه الدول الى 40 فرد من كل 100 الف من السكان، و في بعض دول اروبا الشرقية مثل المجر وصلت هذه المعدلات الى 40 – 38 من كل 1000 الف فرد من السكان، وفي فرنسا والولايات المتحدة الامريكية وبريطانية تزيد نسبة الانتحار الى على 20 فرد من كل 100 الف فرد من السكان، وفي العشرة سنوات مضت كانت نسبة الانتحار في الدول العربية والاسلامية لا تزيد عن 2 – 4 لكل 100 الف فرد من السكان ويعود ذلك لأنتشار الايمان بمقومات الحياة البسيطة، وتحريم الدين الاسلامي لقتل النفس بغير حق، والان اذادت نسبة الانتحار في الدول العربية والاسلامية بمعدلات كبيرة، ويعود ذلك للضغوط الاقتصادية ودكتاتورية الحكام وعدم وجود افق للحرية والديمقراطية، والظلم والتهميش السياسي والاجتماعي، ومن اغرب ما وصلنا عن موضوع الانتحار، كشفت وسائل الاعلام الفرنسية ان مدرساً فرنسياً اوقف عن العمل، بعد ان طلب من طلابه كتابة مقالات يتخيلون فيه انفسهم قد قرروا الانتحار، وذكرت صحيفة ( شارينتي ليبري ) الفرنسية ان تصرف المدرس اثار غضب اولياء الامور، واتهم خبراء فرنسيين المدرس بالتصرف الغير مسؤول، في وقت تشهد فيه فرنسا ارتفعاً في حالات الانتحار. وكما قال الفيلسوف الألماني ( شوبنهور ) :- ان الحياة كلها الم وابهام وتعقيد .... انه الموقف الفلسفي المتشائم الذي يلخص قوله:- لست ادري لماذا نخدع انفسنا بهذه الزوبعة التي تثور حول لا شيء ؟ الى متى نصبر على هذا الالم الذي لا ينتهى ؟ متى نتدرع بالشجاعة الكافية فنعترف بان الحياة اكذوبة وأن اعظم نعيم للناس هو الموت ؟ كان هذا النبض هو الخروج من شرنقة الحياة بمذلاتها، الى نبض الموت الذي يبقى خافتاً بغموضه، كنار خفيفة تحت رماد، فالبحث المضني للمبدع في جميع المطارح والامكنة، يبقى بمنزلة صرخة في العدم، فكتابات المبدع جنة صغيرة كونها باحساسه المرهف، في ارض موحشة ونهر متقلب بانفعلاته في حياة رتيبة، فالياس جواب العجز الابداعي عند المبدع، حول غموض الحياة والموت بحثاً عن حل لطلاسم الوجود الكبير الذي يحاول ان فك اسراره الغيبية، انه ما يجعل رعب الحياة في عرف المبدع كالرعب من الموت نفسه عند الاخرين، ذلك الرعب الذي يدمر اساس الحياة ابتدأً من الحرية الى الطبيعة حتى مصادرة الحلم الجمعي، وعبثية البحث عن نافذة او كوة صغيرة ياتي عبرها الضوء، وذلك ياتي عبر اسطورة خلود الابداع الانساني، المبدع اشبه بعصفور مصاب بداءBERI BERI يموت العصفور جوعاً وهو ينظر الى الحبّ الملقي امامه ولا يلتقطه بمنقاره، جميهم كانت كتاباتهم تصتبغ بالنكهة الانتحارية، كتاب عرب او عالميين ممن وجدوا ان الحياة لا تستحق العيش من امثال، الروسية انا مارينا تستفيتا وخليل حاوي وسليفيا بلاث وفرجينا وولف وعبد الرحيم ابو ذكرى وارنست همنجواي وغيرهم من الكتاب، لقد وجدوا مخرجاً لعذابات حياتهم اليائسة بمصادقتهم الموت، ليذيلوا نبض الالم بشفافية عميقة، فالانسان تلميذ مبتدي والالم معلمه الكبير، فالمبدعين شعراء او كتاب يدخلون الى مغامراتهم الى الحياة باجلال وتقديس، نصياً ونظرياً مثلما ردد الانجليزي ( برنارد شو ) :- في الحياة كما في الشعر،اللاقاعدة هي القاعدة الذهنية .... فالمبدع يقع اسيراً لطغيان النص هذه الالهة المغرورة بكل ادواتها وموثراتها النفسية التي تقبع في عمق النفس البشرية، والكاتب فتح بواب هذه النفس بشفرات ابداعه واصبحت الان واقع حقيقى لدراسة البشر وحالات الابداع، ورصد لهم الهم اليومي باحترافية، لذلك اهتم علماء النفس بتفاصيل اعماق المبدع في جميع تخصصات الحياة، ومن نتائج هذا التامل في النفس اخرجوا للعالم احدث النظريات في الفن وعلم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع، في محاولة لسبر اغوار النفس البشرية بغموضها الثر المتوحد بالالام
ونماذج ذات مميزات دلالية مفعمة بلهيب عذاباته وبقايا من رماده المقدس،الخلق،البعث فيحتضن الكلمة الخالقة الإلهية التي هي صلة حميمية الموت عند الشاعر والقصيدة، والكاتب والنص والفنان ولوحاته الغرائيبية، كيف لكلمة واحدة تفوح برائحة الرصاص الكوني، يفتنها شحذ النشيد ؟ والمبدع يشتم القصيدة ويتبادل وإياها العصيان، التمرد،الصراخ التفكك أو هكذا كان يتوهم، يلاحقه الموت فى شوارع تتشكل فى شعوره يحفر فى الجبال إنفاقه وفى البحار اتساعه، يلحم المدن بالقرى، وفى لوحاته يستعيد بهجة العين، ومن موسيقاه شفافية الإذن وفى ذلك الزمن كانت الكلمة تستعد للتشبه الحزين فتهرب من دائرة السلطة سلطة الوجود لتفاجأ، بالأهانة، الشتم،التهديد، لم يكن ذلك المبدع يبالي لديه حياة اخري فى مكان أخر، يحتفظ بضحكاته الفظة لأوقات اخري حتى ينكفي ويسال ما الكلمة ؟ كيف اخرج من أدغالها ؟ إنا الممسوس اتبع صوتها مع دقات طبول ملك الموت، تطارده الكلمة، والجسد يهدده النزيف البارود، الإدانة مرسخة انه ألان سيد الجميع تستسلم له الكلمة، وادعة بين أحضانه تسترخي كالحلم... غير أنها ربما تكون أفخاخ الحلم، تنسل الكلمة مطاردة بقرات مرتفعة الصوت من العالم الأخر، ارنست همنغواي، آنا تسفيتيفا، فرجينيا وولف، فان غوخ، مايكوفسكى، خليل حاوي، عبد الرحيم أبو ذكرى، يصنعون عالم مقابل كلمة واحدة تصالح الجحيم، الإله والأرواح،الماء التراب، بماذا أذنب المبدع ؟ لأنه خلق من أحشاء الروح الحرة الهائمة فى الملكوت الأعلى، من اللقاء والتجريب، المغامرة، القلق، احتمال الشيء وضده، فيشب على ارضه المعزولة المنعزلة المنبسطة الخاوية، يحن إلى طائره الخرافي من الكلمات ليخلق أسطورته اليتيمة التي تبتغي الألفة لتشكل متعة صوفية المناخ وداء الانتحار، لازال المبدع يكتب، يرسم، يولف أعظم المقطوعات الموسيقية، لم يعد هناك ما يهم مادام لازال الآخرون لم يتمكنوا من اكتشاف الذات الحقيقية للإنسانية ولازال يصنعون من الكلمة الحروب والمجاعات، والحداثة المفرغة من المعني الاسمي لروح الإنسان،الكتابة هي الوحيدة التي تحاول ان تتحسس طريقها نحو اكتشاف الذات الإنسانية فى داخل الإنسان، الذي يحاول ان يستعين بفطرته وإحساسه الملموس، وتمسحه فى العوالم الخالدة لأنها تمنحه الوعي والإدراك، وتطور الإنسان يتم من حول المبدع كروتين عادي بمراحله المتعددة، والقصد هنا ( الانسلاخ الحضاري ) خارجة ومتوالدة من رحم الحضارات المتحركة، هكذا تتحرك العقلية المبدعة ومن هنا تنطلق حرفة الكتابة وهي حرفة وليس مهنة، لان الحرفة هي اكتشاف الحياة اليومية لمحيط المجتمع الواعي الحر فتفجر ينابيع الفكر والثانية ( ضروريات ) لوجود الأولى واستغلالية مفهومها الحر، هل تودي كل هذه التراكمات إلى انقسام نفسي فى المبدع فى محاولة لتحديد ذاته وكينونته إما تختلط عليه الأمور ؟ إما انه لم يعد يستطيع تحمل ألامه، تلك الآلام التي تكاد ان تهزم من لا يستطيع الشفاء منها، بعد ان يطرق جميع أبواب عقله بحثاً عن دواء شافي هل يزرف من قلبه دمعة ؟ هل يقتل كل أشيائه الجميلة حفاظاً عليها من الاحتراق فى ًًدواخله ؟ هل يلتئمن الجرح العميق إما يستأصله ويعود إلى الصراخ المؤلم ؟؟ هل تظل حياته حية بدور مليئاً بالمفاجآت المدوية ؟؟ يؤمن المبدع ان الحياة مثل النهر الجاري لا ثبات ملازم لقوانين الطبيعة وان الثبات السخيف على رأى واحد هو مرض العقول الصغيرة إما الأرواح العظيمة تستنكف هذا الثبات، لذلك ينطق المبدع بما يفكر فيه بألفاظ قوية رغم انه يثق تماماً بان يسأ فهمه، وهل من شر الأمور ان يسأ فهم المبدع ؟ لقد أسئ فهم فيتاغورس، وكوبرينكس، وغاليلو ونيوتن، وسقراط، ومارتن لوثر كنج، وكل روح طاهرة عظيمة عملت من اجل الإنسانية ولكي تكون عظيماً،لابد ان يسأ فهمك فقط لأنك خارج القطيع رغمٍ من أغرات مزمار الراعي السحري، ويهب الله لكل عقل الخيار بين الحقيقة والزيف، اختار منهما ما شئت لكن لن تظفر بالاثنين، من يختار الزيف لا يرى الحقيقة ومن يختار الحقيقة يظل جواباً بعيد عن كل مرفأ لا شي في النهاية مقدس، سوي نزاهة عقلك عندما نحرر أنفسنا يكون ذلك طمعاً في وجودنا الفاني، يؤيدنا فريق ويعارضنا فريق لذلك عندما يتمأهى المبدع ويقلد سقوط كلماته على النص، انه يصنع لنا رموزاً ايقونية تشكل بوميضها وضؤ من الحرية، أو على الأقل تفتح لنا كوة صغيرة على السماء وفي مرحلة الخلق هذه يكون المبدع فى اعلي حالة التمرد، يخلق أشيائه وهو محتفياً بجنونه أضحية عظيمة وقرباناً لإلهة الكلمة حتى تعفو عنه،فيصبح أكثر جمالاً وتصبح الكلمة أكثر حبٍ والتصاقاً بهي، ووسط هذا الطقس المقدس يأتي القلق والتوتر ليفخخ جسده بالانفجار، وفجأة تطير الشظايا أوراق، أقلام، جمل كالأحلام، ويخلق حربه المقدسة من اجل الفقراء والمظلومين،فيستنشق عبير الكلمات ويطير نحو السديم حاملٍ راياته وإعلامه، اعترافاً بقبول آلهة الكلمة لقربانه المقدس، فيخرج للحياة بسرد جنوني يدخل المفتاح يدير القفل ويترك حجرة الشعور تفيض بنورٍ الهي، يقف المبدع مباشرة فى عين الموت كأنه جرحاً يتدفق من مشكاة دماء،شاهداً الحرية متوضئاً بالنار، يعتق حروفه تطير نحو الفضاء مخلفة غباراً كونياً، يدثر كتاباته بلغته الوحشية، ولا شيء في عقله إلا جنون إبداعه، ليفضح أفعال الجريمة وأقنعة الطغيان، فلذة الكتابة لذة عنيفة مؤلمة، يسعى المبدع ورآها لأنها لا تطلب لذاتها بل لمتعة الحياة، ويصبح المبدع فى حالة من التماه وبهبوط النص يستعيد الفته نحو الاغتراب إلى عوالمه البعيدة، عالم الموت فيسمع النداء الروحي الخفي فيهبط القلق ويثقل كاهله بالحنين، ويدخل فى برزخ عالمه مخلفاً ورآه مجتمع الحياد والجهل، وغياب الوعي، مجتمع الأوهام، يقذف بنفسه خارج الكون، يبحث عن ذاته الغائبة ويطبق قانون الصيرورة والتحول عند ( هيراقليطس ) :- ليس بإمكانك ان تنزل النهر مرتين !! كل ما انفجر جسد مبدع بالموت أتى جسد مبدع أخر، يتماهي داخل عالم أسطورته حتى ينتهي إلى تاليه ( أناه ) وهو ليس قابلاً للانسجام مع الحياة، بوصفه كينونة غير مستقرة على منطق أو برهان، فتقترب روحه نحو ممارسة فعل الموت عن طريق الحصار، والعزلة والجدب فيعيد خلق فضاء يسمح له بإدارة سلسلة من إحداثه الروحية والنفسية، ويرسم موقعه الشخصي ليتجاوز منطق المعاناة والحياة ليواجه مصيره الوجودي، واختياره مكان وزمان طريقة الموت جزء من روية، سوأ كانت حدسية أو روحية أو مغلفة بغموض النمط البدائي للموت، الذي لا ينفصل عن نسق الروح الأولى التي ظلت تتناسخ في نصوص المبدع، وان وعي الكاتب انتهى إلى رؤى متضاربة لأنه يقف بمكان لا ينتظم في خطوط متوازية ذات إبعاد أحادية، العالم إمامه لم يعد يستحق الاحترام، فقط التوبيخ والتمرد مصارعاً ومجابهاً الضغوط الناشئة على هذا العالم بتقلباته الثقافية والسياسية والحضارية والاجتماعية، فضلاً عن الانسحاق الذي تواجهه الذات، بوصفها كينونة فردية والكتابة حالة لذات المبدع النفسية والجسدية، كالتعبير عن حدة أشواقه والنصح لمجتمع يتجه نحو هاوية من التناقضات، وكل هذه الأشياء تجعل من النص نصاً له إبعاده الرمزية والأسطورية شبه مبجل ومقدس، ودفعتني جميع هذه الإبعاد الفلسفية، إلى الإذعان والاستسلام إلى هذا الذي نسميه ( الموت بالإرادة ) إرادة المبدع، فانه لا يملك إرادة سوي مسالة أو مسالتين مسائل قطعية ومتأصلة عميقاً، ماعدا ذلك تجده متساهل إلى حد الضعف والحماقة، والسبب ربما تلك ألامبالاة الغريبة التي ترتكز على يقيني، بان الإنسان لا يعرف ما يفعل ! كما انه لا يعرف ما سيؤول إليه ،وإرادة شيء سرعان ما تصبح مصير ابدي، لن يصعب عليه ان يلوح على الأفق ... والمبدع فى حالة خلق النص، يصبح مشدوداً بين عالمه المنشود وعدمه، في حالة من الانتظار الفاعل إلى حد ان ذلك يجعله مرهفاً، على نحو فريد والى أقصي الحدود تجاه الكلمات والرموز، ويستمر بلا انقطاع في تنقيح وخلق عوالمه واستحضارها من دواخله الخفية الغامضة القادمة من المجهول، تأتي إلى إذنه قوة إنشادية مؤثرة، يتبعها همهمت ووساوس تبدو له غريبة، لكن محببة انه نزاع الرغبة ومشيئة القدر انه الموت بمشيئة الإرادة يزداد الهمس يصبح ممسوس يتحفز للحظة الرحيل إلى عالمه البدائي البري الساذج، ليعبر عن لا مبالاته اتجاه المجتمع، وهم يعالجون نصوصهم ويقدمون تأويلاتهم والمبدع دائماَ يشعر بالأم عظيمة وهو يمر بحالة ولادة النص، وهو يمتلك المهارة والقدرة المتحررة، ويصنع النص الفكرة فيجبر المجتمع على الاعتراف بأنه خطف من عبقريته المحتملة، بعضاً من إسرار إنتاج الجمال، ضرباً من خيال روضته الذكريات يشكل نصاً ابتدأ واحد من أخر ويرتقي في بنائه من نص إلى نص وصولاً إلى مرحلة الخلق، حيث تكون الحالة النفسية للمبدع فى مناظرة دائمة بين الحياة كواقع، وروحه الهائمة مع القدر كأنها اوركسترا تستيقظ آلاتها لتكلم بعضها البعض ناشدة تناغمها قبل بداية الاحتفال، ومن المعروف ان الحالة العامة تفرز أوضاعا سيئة، فتودي إلى ردود فعل معارض فيتمرد المبدعين بدرجات متفاوتة الوضوح أو يتقوقعون حول إعمال، تتجه نحو ميولهم إلى نقاء الحياة الإنسانية، وتحدث لهم صدمة اللقاء الأول لحياة قاسية ويدخلون فى حالة من الانعزال الفكري من الواقع، فيتجه نحو أساطيره وأحلامه ورموزه منتش بهمهمته، جميعهم اختاروا طريقهم نحو الموت،الحياة تبهر والسلطة تفرض، والحرية تسكر، والفوضى عدم أمان يخيف، ويجب ان لا ننسى ان كل مبدع يتميز بموهبة يصنف نفسه في سريرته، ارستقراطي من جنس خاص، كما انه لا يستطيع التماه مع الحياة العامة شأ أم أبى، ولهذه الحقيقة تبعات مختلفة الأوجه فقد يرى المبدع الديمقراطية التي تدعو إلى المساواة فى الأساس عاجزة عن إعالته، ويودي ذلك إلى احتقاره لرجال السلطة والشعب الخاضع لهم فيحتقرهم جميعاً، فيصاب باليأس ويشعر بإغراء الموت متمثل فى قيامه بدور القائد المفدي أو الأضحية،التي تقوم بدور التشظي من اجل الجميع لتحقيق حلمه الكبير، من اجل نقاء البشرية... فيهذب روحه بالانتحار ويهرب من إشكالية الضمير الإنساني المعقد، وينتبه عقله المسئول الأول عن تضحيته الغالية هذه سوأ كانت عبر نصوصه أو في حالة موته الغامض متشظياً ليصبح أسطورة تعبر حضارات ومدناً وسواحل، والمبدعين قديسين ًبنقاهم ودائماً ما ينتابهم إحساس الضياع وسط المعاناة وصعوبة الحياة، وسط الحروب والظلم والدكتاتوريات والحياة المفرغة من معنا الاستقرار النفسي للمجتمع المفجعة للأجيال الضائعة، الحياة مأساة وكذلك الأدب أعمق مأساة لان عبره نكشف الواقع بأخطائه القاتلة ولأنه يمثل لنا رؤية سوداوية للجهود الإنسانية، فالإنسان بطبعه الغريزي يتردد بين الألوهية والحيوانية، وهذا التردد يجعل المبدع مصاب بالأم العجز والشعور الكامل بالضعف إمام الموت ويتمسك بالغيب كقارب نجاة إمام الوجود، تقابله العبثية وخيبة الأمل والخوف والوحشة والملل، كيف يجد المبدع معنى للحياة ويحاول ان يعيشها بعنفوان وصدق وسط دوامة من الماسي اليومية ومن ان تتقبل روحه واقع المجتمع والحياة ؟ لا بد ان يمتلك هذا المبدع حريته الشخصية لاختيار مصيره، ولا يمكن ان يصبح منقاد وفرد من القطيع لمسارات وجودية وفكرية في المجتمع رسم لها الآخرون الطريق مسبقاً، ودائماً ما يصطدم المبدع بالمعايير التى وضعت من قبل الأنظمة الثقافية والدينية المتطرفة في المجتمع، بالإضافة لكبح جماحه من قبل السلطة الحاكمة بجميع أدوات القهر، رغمٍ من ان حلم المبدع ليس اكبر من الواقع، انه يحلم بالإصلاح والنهوض بالمجتمع من ركوده السياسي، والاقتصادي، والثقافي ،والاجتماعي، إلى حد قول الفيلسوف الانجليزي ( كيغارد ) الذي عده الكثير من النقاد مؤسساً للوجودية، وهو الذي يرى على حد الناقدة الانجليزية ( جوليا واتكن ) ( ان كل مولود في الكون له المقدرة على ان يكون كياناً صلباً وان يبدع في علاقته الخاصة بالمقدس ) وأيضاً حسب جوليا واتكن، فان ذلك المولود لا يتلبث ان يتعذب بفكرة الموت الذي سيلاقيه لا محالة لا محالة، لذلك فانه يغرق نفسه بانشغالات جمالية تصرف ذهنه عن نهايته المأساوية الموت، إلا انه و في كثير من الأحيان لا يستطيع ان يقهر عدو اكبر منه حجماً وحيلته هي الملل والكآبة المخيمين على افقه، ولقد قال ( كيغارد ) نفسه ( ان الملل والكآبة هو ظل من ظلال الشك، الذي ينمو حتى يفقد الإنسان أمله بالحياة ) مثلما وضع عالم النفس ( نيتشه ) أطروحته الفلسفية عن بنية الشخصية، وأهمها حين صرح بان ( تضاؤل الخلق الإنساني، بسبب عبوديته للقيم الزائفة ) التى يطلق عليها ( الأوهام ) ونفسر إذن ان روح المبدع تتحدى العوائق القيمة والحدود الفكرية والثوابت المعرفية، وهي تستكشف وتجرب وتدمر لتعيد الخلق، ويرفض المبدع الثوابت القيمة السائدة التى تكرس قدرية الذات وانصياعها التام لا رادة الأعراف والتقاليد، والمبدع يقدم نفسه للمجتمع على انه الملتزم بقضايا الإنسان وهمومه، وهو الرافض للانصياع للتابوهات ويقاوم التحديات التى تحاول ان تطيح بهي، ويعارض ويقاتل عبر انشغاله بخلق نصوصه وهو مدفوعاً بقوة خفية، يدخل اكبر عدد من القراء من خلال صياغته الشيقة، أو نصه المترع بالإشارات المعرفية المحرضة على تغيير الواقع المعاش، واثنا خلق المبدع لإبداعه هذا يدخل و يصاب بحالة من التماه بين واقع متوتر كئيب، وعوالم غيبية صادمة يسكنها الموت ذلك الكائن الحر الذي يسمو على الحياة، ويرفض ان يعيش مع الأنانية والغريزية التى تحملها النفس البشرية، لماذا يقترف المبدع الموت المحظور انتحاراً ؟ ويتركنا نطرح تساؤلاتنا بجرأة هذا النمط من الموت، ربما لان المبدع صاحب المهام الكبرى، يكتشف بنفسه حقائق النفس البشرية والكون والخالق من تلقاء نفسه بدون مرشد، ويوظف كل قدراته العقلية الفائقة في تحسسه الطريق نحو الخلاص، بعد ان يكشف عبر نصوصه حقيقة الكون والوجود، فتهيج دواخله وتعتمر في صراع عنيف بين نفسه الإنسانية و رؤاه الخيالية، فيرحل إلى عوالم أسطورية متخيلة قادرة على اكتشاف الحقيقة المطلقة واليقين الروحي، ويتم ذلك للمبدع عبر ملاحظته ظواهر العالم المحيط بهي منعكساً على ذاته ويصبح رمز مجازي لبطل يبحث عن الحقيقة ليجدها لا في حدود العقل، لكن عبر تجليات الذات المقدسة تلك الذات المتحدة مع الموت في عليائه، ليضع حداً لحياته بالعبث بقرينة الدم، همهمته طقوس نداء قادم من عمق عذابات الحياة يدخل في عزلة صوفي بنصه السردي الذي ينطوي على عدة مفاهيم متناقضة تصل إلى حد التصادم، فهناك إلتماس مباشر بين القيم واللأ قيم، وبين الجد والهزل، والماضي والحاضر، والأمل واليأس، وبين الجنة والنار، والأرض السماء،والحوارات الفلسفية و الحوارات السوقية، وبين المغامرات المتخيلة و والمغامرات الواقعية، وبين الأماكن الطاهرة وبيوت الدعارة و بين أوكار المجرمين والحانات، والمبدع في رحلة البحث هذه يصطدم عن وعي وقصد بتلك الأماكن والأجناس من البشر بين أقصى السمو وأقصى الانحطاط، ومن هذا المنطلق تبدأ نصوصه في وصف بلاغي يعكس فراديس الأمكنة أو جحيمها ويدخل المبدع في حالة من الهذيان، لتعكس الطبيعة السيكولوجية لهذا المبدع الممزق بين رغباته الغير ساكنة و المتناقضة التى تصل في حالات كثيرة إلى درجة الجنون والهذيان وانفصام الشخصية، وأخيراً يتبع هوى وساوسه فيتلاشى في العدم وهو يسخر من يسمون أنفسهم بالعقلاء، وبموته يفضح أسرارهم وينتهك محرمات السلطة والأعراف السائدة بشكل مرير ويضحك على ذقونهم، وبعد موت المبدع يبدأ المجتمع في نبش ذاكرته ليبحث عن حقيقة هذا المبدع، في أمكنة مختلفة وظروف غير منطقية وإحداثٍ غرائبية وغير قابلة للتصديق وبشكل خاطف وصادم، والمبدع كائن ذو شفافية يتألم ويتعذب وهو في قلب مأساة المجتمع فيخلق الأجناس الأدبية، ويسعي من اجل بلورة تعدد الأصوات، وتعدد الرؤى وتنوع النبرات التى تبعد الرتابة عن النص، وبحسب ( بأختين ) يجد ان النص في مشغلاته الأساسية يشبه تفاصيل النفس الإنسانية، ومحاكاة المبدع محاكة فلسفية لا تخرج من إطار النص، مثلما عبر عنه الكاتب ( مارسيل بروست ) في احدى رواياته، حيث تحدث عن مهنة الكتابة قائلاً : نعمل في السر، ونقوم بما نستطيعه، ونعطي ما نملك، وشكنا هو شغفنا وشغفنا هو عملنا، والباقي ينبع من جنون الفن... والكاتب أو المبدع ينقل نصه من الواقع بسردية حذرة أشبه بلوحة رسام متشظية ساكنة في غموضها، واقرب لنوتة أو جملة موسيقية غير تامة، ومهمة المبدع ان يلملم الصورة المتشظية نصاً يزاوج فيها واقع الحياة القاسي بسرده الشاعري داخل بنية النص الأدبي أو الفني ويضع إمامنا نظرية ( للاحتمال ) حتى ينحت لنا وجهاً استعارياً لأعطاب الحياة، ومن هنا نكتشف الثورة، والحب، وإيقاع الحياة، والايدولوجية، والعبث، والرغبة، والمفارقة، فيصهر المبدع رؤاه في اقصر صياغة سردية ممكنة، كي يكشف رفاهية الحياة وحتى رفاهيتنا أحياناً، لان الكتابة هاجس الفعل يومي بين بؤس الصورة والاحتمال، تكشف لنا الحياة بأعطابها ومفارقتها المرة، ويصبح الوعي شكلاً ثانياً لحالات التشظي التي تعيشها كينونة المبدع وداخل هذه الكينونة تنزاح ذات المبدع كي تعيد تشكيل الصورة الهاربة، لكنها تظل خاضعة لإرادة الفعل العقلاني للمبدع فيذهب بالنص إلى أقصي حالات البوح ان لم نقول ( التعري ) مادام الغرض هو تشكيل أعطاب ومفارقات الحياة، لان الحياة ميلاد أخر عند المبدع، أشبه بالسقوط الأول من رحم المصير الذي لا يبارح أحداً، ونحن في معارك الحياة يكون لدينا اختياراتنا تلك الاختيارات التي بعثت مع تلوين الحياة، ومن هنا تصطدم دهشة المتلقي مع أفق النص المفتوح أثناء عبوره إلى اللانهائي والمطلق بنبؤاته الغيبية الخفية، ويصبح المستقبل ملاذاً للطمأنينة ويضفي على حياتنا قواسم مشتركة بين كينونة المبدع و انبهار المتلقي إمام نص اقرب إلى المقدس، يتماها إمامه بهذيانه، ويرى المبدع نفسه من خلال هذه اللحظة صوفي يتجلى في ذاته، يشكل نصه وحيداً بمعزل عن العالم، كأنه ينسج بمنواله حريره بصبر، حيث يخط ويخلق نصوصه بخشوع، لغةً، وتركيباً، ومعجماً، وإيقاعاً للحياة، وهو في حالة من الانكسار الروحي، وحالة من الشك وهي حالات من الاستعارة على قدر النص في فخامته أو أمتلاه، وهو يستثمر قلقنا الانطولوجيا كي يشكله صيغاً وصورة و رؤى، ويتجدد النص لأنه شكل من إشكال المعرفة معرفة الحياة والإنسان وتجلي دهشة القراءة، وننتظر نحن على الضفة الأخرى من الحياة جمالية التلقي لنضع النصوص في الذاكرة ونقيس نبضها على مؤشرات طويلة المدى لإخصاب المعنى وتوليده، فنأذن باستمراره وصيرورته لان حالة الدهشة حالة نادرة، لأنها مرتبطة بحالة الإبداع أي الفعل الجمالي في الحياة اليومية، و انتحار المبدع يعتبر من مسؤولية المجتمع لان المجتمع يمجد الجهل واللامبالاة وغياب الوعي والأوهام، ويعتبر المبدع ان المجتمع يرفض وصياه ويعتبر الانتحار خلاصه الاكبر فيقذف بنفسه خارج كينونته ويتماه بصورة غير صورته، حتى ينتهي إلى تاليه ( أناه ) ويتصالح مع الذين سبقوه وعبروا جسور وذاتهم الغائبة، وبرحيله المساوئ التراجيدي من عالمنا يضعنا المبدع بين قوسين أو ادني من تساؤلات الوجود الغيبي، كأنه يريد ان ينبهنا على انه يكتب نصوصه بدماء قلبه على صفحات الورق البيضاء، و ليس بمداد حبر اسود على أوراقاً من كآبة الحياة، ينقب عن حقيقة الإنسان بعقله الواعي والغيبي لان المبدع صاحب فلسفة إنسانية تجعل من الوجود الإنساني الحقيقة الوحيدة في الكون، مثلما قال ( هيجل ) :- إذن ان الإنسان هو أكثر الموجودات واقعية وموضوعية في علاقاته الحسية بالعالم وأشيائه وموجداته ... ومن المعروف ان الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يقول ( أنا ) لأنه مخلوق متفرد غير قابل ان يحل محله موجود أخر، وهو الوحيد الذي له المقدرة على التمرد عن الحياة والخروج النهائي عن القطيع، لذا خلق النص عند المبدع ليس عملاً سهلاً ولا سلسلة من الكلمات، وليس كتاباً أو كلاماً بقدر ما هو موقف مباشر من التاريخ والثقافة ومن الإنسان والحاضر، ومثلما رفضت اروبا في القرون الوسطى المبدع لأنه يهدد إستراتجيتها المادية، رفضت أيضا الحضارة العربية في عصر الإسلام الشعراء وتوعدهم، لأنهم الغاوين الذين يكذبون، ولان العرب أتى إليهم الشعر في ثقافتهم لضعف الأنساق الثقافية الأخرى فاستعانوا في زمن البنية الشعورية الفارغة بلذة التخيل، لذلك اعتبر ان الشعر نكد بابه شر، ولان صاحبه حين يتوهج ويصبو فيطأ المحرمات ويعاقرها ويصبح من الكائنات الغامضة التى من مهمتها ان توسوس في الصدور، وتزين معاصي القول وتدفع الآخرين نحوه، رغم ان الرسول ( ص) اتخذ من الشاعر ( حسان بن ثابت ) شاعراً له ! إما المرأة العربية نظمت الشعر قبل الإسلام وفي العصر الإسلامي لكن كان النظام الأبوي هو المسيطر على الكيان الثقافي في تلك الفترة خاصاً الشعر، وإذا القينا نظرة على احدى مقولات أسلاف العرب لتأكد لنا ذلك، سئل الشاعر الفرزدق فلانة تقول الشعر، فقال :- إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فلتذبح ... ولعل قول أبي فراس يلخص موقف العرب من جميع النساء اللواتي نظمن الشعر، قال أبي فراس :- الشعر من أعمال الرجال، فما النساء وقريضه...! ومن المفارقات في المجتمع العربي في ذلك الوقت، ان تلك الفترة كانت من أخصب الفترات التي نظمن فيها النساء العربيات الشعر و وصلن إلى درجة الغزل الواضح والتشبيب بالرجال، وحتى ألان كتب التاريخ الأدبي تمتلئ بهؤلاء الشاعرات ! ولا زال المبدع شاعراً أو كاتباً أو موسيقى أو رسام، جمعيهم يحولون نصوصهم إلى لهب ويحتفوا بالوجود، والنبوة، والرؤيا، والعشق بالعشق، لو موتاً... الإنسان يولد فيسميه أبواه لكن من يسمي المبدع ؟ ان اسم المبدع يسقط عند دخوله طقس الإبداع، لأنه يدخل إلى هذا الطقس باعتباره أنساناً قادم من المجهول يبحث عن عشيرته في أركان سديم الكون، فيرحل إلى عالم الأموات ليدفع عنه خيانة الحياة، ويترك لنا إبداعه على جبين الواقع، ويعصي الزمان ويشيخ تحت ظلال السحر، فينتفخ بطاقة الجنون المقدس والإلهام والهذيان، فهو يتكلم عن نفسه ويجعل من روحه مرآته العاكسة التى احتوت في دواخله إبداعه، ثم صارت منفى لا سفر، ولا ارتحال، بل إقامة دائمة مبتورة الصلة بالعالم ليسخر من الذات والوجود، إنكاراً منه لواقع مهلهل ومرقع ومتهاوي، لأنه الوحيد الذي اختير من دون البشر لحذقه في إصابة الهدف ويمتاز بسرعة الخاطر، وحضور البديهة، وذاته هي سبب وجوده، ويرى الفيلسوف الانجليزي ( سورين كير كغارد ) ان حمل المبدع لا يستطيع الإنسان ان يحمله إلا بمساعدة الإيمان... رغم ان الإيمان لا يرفع الشك ولا القلق، كما انه لا يؤسس لامتلاك الفرد لذاته في علاقة مجتمعة كمثل علاقته بغربته، والكون الذي يجعله يقف دائماً إمام تساؤلات الوجود الكبرى، لان الوجوديين الذين تابعوا ضياع الإنسان، بسبب الحروب والكوارث التي يفتعلها الإنسان نفسه، الذي أصبح بلا مأوى وبلا جذور، وعاد الإنسان مرة اخرى يطالب الفلسفة بالعودة إلى السؤال حول الإنسان المهدد بتأثيرات وافدة إليه من الخارج، كالشعور الديني والفكر اللاهوتي والأسس الميتافيزيقية التى تحول الإنسان إلى صومعة لقوى خارجة عنه، ويختزل مصيره الفردي إلى وجود زمني عابر في العالم، بغير بصمة بغير اثر، كأنه لا يدين للوجود ولوجوده بشيء، كما عند الفيلسوف ( هنري برغسون ) عندما صرح :- الوجود هو نزعة نحو الحياة، وبناء الذات المتعالية أو الأنا الإنسانية، قبل الأنا الغيبية التى يجب إلا تختزل كل ( إنا ) سواها، فالمبدع يتعذب في داخله ويشعر بألم عظيم بسبب واقع مفضوح بفساده، فيهرب من هذا الواقع ويدخل إلى محراب جنونه ناسكاً يؤدي فروض ولاه إلى عالمه الأسطوري المتخيل، وان يحرق كل كتب التاريخ على اعتبار ان التاريخ يكتب مزوراً، ويهدم جميع أعمدة المجتمع التى بنيت على خطاء، وهو يحكي كوابيس الرعب ويناشد كل روح تواقة للحرية ان ترفع رأيتها، وتكمم أفواه الذين يدعون إلى تكفير العقل، والاغتيال الروحي، ويرفض عبثية مجتمع تنعدم فيه الحرية، فينشر سخافته ويقتال الثقافة ويغلق عقل المجتمع بإقفال من فولاذ، فالمبدع هو الإنسان الوحيد الذي تنعكس في صفاء روحه صور وجوه الجلادين والضحايا، فروحه عيون امة تدور في مآقيها معان لسخرية مهزومة، مثلما قال الفيلسوف ( كارل سبرز ) :- بين الآنية وبين الوجود الماهوي، يضعنا إمام واقعة أساسية حين يقول ( ان الإنسان هو الحقيقة الأساسية التي استطاع أدركها في العلم، فهو يتصف بالحضور والقرب والامتلاء والحياة، وفي الإنسان وبهي وحده يصبح كل ممكن واقعاً، لهذا فان إهمال الوجود الإنساني أو تغافله معناه الغرق في العدم ) ان مفهوم ( الذات ) يتضمن فى النهاية معنى الوجود الإنساني، الذي لا يتم التعرف إلا من خلال إدراكه إدراك الإنسان لذاته، من ثم إدراكه لما حوله بالوجود من موجودات، ومن ثم إدراكه لكل الوجود الذي من حوله، والذات في عرف أهل علم النفس بأنها جسم الفرد الذي يكون جزءاً منها لأنها قابلة للامتداد لتتضمن كل ما يدخل في مجال حياة الفرد، بيئته ، وآراؤه ، ومعتقداته ، وكل ما يمتلكه ليدافع عنه، والذات ليس قاصرة على الجسم، لكنها تتضمن المادية المعنويات، وتتكون الذات نتيجة التفاعل الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية، فالذات عبارة عن مجموعة من الاستجابات وردود الأفعال في الإنسان نفسه، إذن يستطيع كل جسد ان يحل محل جسد أخر، لذلك يتماه جسد المبدع في جسد أخر، أو نص مكان نص أخر، وهو خارج الواقع مثلما عند الشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى وقرينه الشاعر مايكوفسكى، والكاتب أرنست همنجوأى واستحضاره تلاشي رأس والده تحت اندفاع رصاصة، ويعني ذلك ان الذات لست جسد ومع ذلك منتمي لها وأليها، والنفس أو الروح الإنسانية ما هي إلا مجموعة من العواطف بشقيها الايجابي والسلبي، وما الغرائز إلا صدى انفعالات العواطف، وبعبارة اخرى أنها الحركات العضوية الناتجة عن الانفعالات العاطفية، ولا وجود للغرائز بدون عواطف ومن الممكن وجود عواطف بدون غرائز، وان الذات والأنا اسمان مرادفان لكلمة الروح، وعدم تصور وجود احدهما بدون الروح، وعدم تصور الروح بدون كل منهما، وإذا قلنا الروح فإنما نقصد العقل بملكاته العقلية الخمسة والنفس بعواطفها وغرائز عواطفها، وعلى هذا فالروح اشمل من العقل وحده وأوسع من النفس وحدها، ويربط بعض باحثين علم النفس فى مسألة النفس والروح وخباياها بمشكلة الإنسان والإلوهية، فالجسد والنفس هما المادة، والروح هي الأرض والسماء، المحسوس والمجرد، المخلوق والخالق، الفاني والسرمدي، كما يربطها بعض الباحثين من خلال بحثهم، بقضية الجسد الحي، وهي قضية الإنسان الأولى ومحاولاته بالتساؤل، ماذا نحن ؟، وما هي الحياة ؟، ومن أين أتينا ؟، وماذا سنكون ؟، وماذا سيحل بنا ؟، وما هو الفكر ؟، وما هي المادة التى يتكون منها الجسد ؟، وما هو مالها ؟، والمبدع أو الكاتب له الحرية في صياغة نصه لكي يعبر بدقة ووضوح متلازميتان عن الفكرة، التى يريد إيصالها إلى القاري، بحيث تكون اللغة بصفة خاصة مادة حاملة لهواجس الكاتب أو الفنان ومجسدا لرويته الفكرية، وينطبق التأكيد نفسه على الشخصيات في نص المبدع، من حيث هي تنظيم ديناميكي متكامل بتركيب موحد لخصائص نفسية وفكرية، تتجسد بسلوكها في الإحداث وبما يميزها اجتماعياً وفكرياً وسياسياً، وتظهر قيمتها من خلال تفاعل بيئتها الداخلية والخارجية، يعنى ذلك خضوع رؤية وإرادة المبدع وموقفه الفكري والوجودي والمعرفي، سواء كانت تلك الرؤية موجودة في الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي، إما اقتصرت على النص أو موقف المبدع من العمل الإبداعي نفسه، فالرؤية كما سنلاحظ وإثناء التطبيق لا تسفر عن الموقف الخاص للمبدع ازأ عالم نصه وشخصياته فحسب، بل وكذا موقفه من العالم أيضاً مثلما عند الأديبة الانجليزية فرجينيا وولف، كانت لها وحدها اللغة، مفتاح الولوج لتحقيق كل الإمكانيات الممكنة والمتاحة لهذا الكائن الجميل، فكأنها تتماها وتجسد بطولة شهرزاد، التي نطقت منذ زمن بعيد كي تواصل الحياة وتعمل على تثبيتها، وذلك فى زمن ما قبل الكتابة ( كتابة المرأة ) حيث لم تكن المرأة تحكي وتتكلم وتكتب، وشهرزاد حكت مدافعة عن حياتها وأثبتت ان الكلام اقوى من نصل السيف، لكنها كانت تواجه الرجل ومعه الموت إما فرجينيا وولف، كانت تواجه الموت وتطلق سراح الرجل الذي عشقته وتدافع عن قيمها الأخلاقية والمعنوية من جهة اخرى، كانت متعالية على قدرية الموت، وذلك باختيارها لموتها الشخصي وإرغام المجتمع على الاستجابة واحترام رغبتها، إذن دعونا نسال ما قيمة الحياة التى تجعل من القدر ان يلتهم ضحاياه الجاهزين للقائه والمستعدين لهدم جدار الدفاع عن حياتهم ؟ لقد كانت تنتظر منذ وقتٍ طويل غواية الموت، لان ما فعلته وولف كان هو خيارها الجيد، على الرغم من إدراكها المسبق بمأسوية خاتمتها، على حسب الرسالة التى تركتها لزوجها، أنها لا تأبه لذلك المصير المحتوم، فكل الأجساد تدور حول مدار الموت، لقد كانت شهرزاد تحكي، وتلعب، وتراوغ، وتغامر، من اجل الحياة، إما فرجينيا وولف كانت تفعل عكسها تحكي، وتغامر وتراوغ الحياة، وتشعر بالأم ولذة الكتابة من اجل ان تخلق حياة وتنزوي في موتها، ومن هنا نستدل على ان وجود المبدع، يرتبط بوجود حياة بشرية ثائرة متمردة على الأوضاع الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، المرفوضة والغير واقعية في نظر المبدع، كما أكد الباحثين أيضاً بان الحرية المطلوبة والمشتهاة هي الحرية التى تنتصر للإنسان، من حيث هو إنسان بكامل وعيه، وان السبيل إلى الحصول على تلك الحرية سوف يكلف المرء كل شيء غالي حتى لو حياته، وبالنسبة للمبدع لابد من الدخول في التجربة واختيار الطريقة التى يعبر بها عن مصيره، لذلك ان تحرير الذات لا يبدأ إلا باللغة ولا ينتهي إلا بها، وجميع هذه الانفعالات النفسية للمبدع، تجعل من تعيين الهوية أمراً واقع برغم من انجذاب المبدعين إلى طريقة الفناء والموت المأسوي التراجيدي، برغم ان اغلبهم قادمين إلى الحياة من خلفيات ثقافية وعرقية ودينية مختلفة، ويتمتعون بجاذبية أدبية عالمية، أنهم منغلقون على فكر واحد مشتهي للغير والميل إلى التمرد من الحياة وخلق الثورات، مع تجاهل اختلافات الأمزجة، والمبدع يشعر في مجتمع الظلم والإقصاء بنوع من الاغتراب الروحي بسب النفور والنقد الموجه ضده، وهي بمثابة استعارة لعمليات الاستبعاد، والتى يحاول من خلالها الكيان العقلي والجسدي للمبدع للتطهر منها، والأغرب ان النظام والسلطة السياسية والثقافية والاجتماعية تحاول مراراً وتكراراً ان تدخل المبدع إلى ضالة المنحرفين أو السيكوباتين وان تستأصله من الحياة، ان المبدعين فئة خدمت المجتمع الإنساني بقيادة بصيرته نحو حريته وإلزامه على احترام العقل الإنساني، واصبح المبدع ذاكرة لمجتمع منغمس ومشبع بالعادات والتقاليد البالية، والنفاق والرياء، والقيم البطريقية ذات الصبغة الذاتية، مجتمع غير قابل للعلاج بالصدق والحب، والرغبة بالتغيير والوظائف والأدوار الجوهرية كنموذج أو معيار للسلوك المنفتح نحو حياة نقية، ونجد ذلك فى المسيرة الفوضوية التى عاشتها الشاعرة الروسية أنا تستيفيتا والرسام الهولندي فان غوخ، وما يحملانه نحو الحياة من ثورة انتقام عبر الجنس، وإظهار للصفات الإنسانية المكبوحة لجسد الأنثى والجسد ألذكوري، من خلال الممارسات الإباحية فى مسيرة حياتهم تلك الحياة التى تم اكتسابها من تذويب ذاتهم فى مجتمع رفض التعامل معهم، ويحاول ان يكبت ذاكراتهم الإبداعية، بتعبيراتها الظاهرية وبصورة عشوائية مهلكة ويضع إمامهم آليات الموت، فى حالة من الاستعداد والتحفز من نظام مركزي يميل في التربية والتنشئة على التبعية، مجتمع يفاخر دائماً بقوة ثقافته الخاوية التى تتحدى وترفض التطبيع مع عقلية المبدع، وترفض أي نقاش حول ايديولوجيا واستراتيجيات الاحتجاج والرفض والشكوى، حتى لو كان ذلك عبر نص أو لوحة أو أي إبداع أخر، ومثلما لدي عالم النفس ( فرويد ) ان العمل الأدبي والفني عموماً وكذلك الأحلام والإعراض العصبية يتكون من محاولة رغبات أساسية متخيلة كانت إما وليدة عالم الفنتازية، ومن المعلوم ان الرغبة لا تكون رغبة ما لم يحل بينها وبين الإشباع عائقاً ما، كالتحريم الديني أو الحظر الاجتماعي أو المنع القائم على العرف والعادات والتقاليد، وهكذا يحول ( الرقيب ) بين الرغبة وإشباعها سواء كان هذا الرقيب هو الوازع الديني أو الأخلاقي أو العرفي الاجتماعي، ولهذا فان الرغبة الحبيسة تستقر في مملكة اللاوعي من عقل الفنان أو الأديب ،و الإنسان عموماً، لكنها تجد لنفسها متنفساً أو قد يسمح لها الرقيب بأن تشبع نفسها خيالياً من خلال صيغ محرفة، وأقنعة من شانها ان تخفي طبيعتها الحقيقية وتخفي موادها عن ( الأنا ) الواعية، ومع ظهور أهمية القارئ وانحسار دور المؤلف أصبح العمل الأدبي أو الفني يعيد القارئ أو المتلقي بناء ومعايشته للنص، ولما كانت العلاقة بين القارئ والنص علاقة نشطة ومتبادلة، فان كل قارئ سيجلب إلى النص تجربته الشخصية أو نموه العاطفي ورؤيته الخاصة، ولذلك أصبح من الضروري تحليل وتفسير هذه القراءة ذاتها لأنها هي بدورها أصبحت نصاً له دلالاته النفسية، وهذا الطرح هو بطبيعة الحال امتداد، لقضية علاقة النظرية بالتطبيق وانهيار الفواصل بين النظرية والممارسة في النقد المعاصر، ويعيش المبدع في دونية بعد شعوره بالرفض، مثال لذلك القرافيتي ميشيل باسكويا الذي عاش حياته مشرداً في عالم المجاري الأرضي، ذلك الفنان المبدع العبقري الذي تحمل ضربات المجتمع الموجعة، رغم انه كان يمتلك الذات التى امتلكت مقومات التصوير عبر إحساسه المرهف، بخيالاته وصوره المختلفة في شكل من إشكال الخلق والإبداع، مثلما كان يصرح علماء النفس دائماً، ان الباعث الأوحد على لحظة الإبداع ونقطة بدايتها، ان أحاسيس البشر جميعاً يحركها الفرح، كما تحركها المعاناة والدهشة أيضاً، فتفجر براكين الإحساس داخل ذات المبدع، وتنفجر معها طبقات الوعي ومن هذا الانفجار يتولد الإبداع، فكانت كل جرعة مخدر عند ميشيل باسكويا تأتي إليه بسؤال الدهشة، ثم تأتي مرحلة الاختزال التى تضج بالمشاهد المكثفة، كان يحقن نفسه بجرعة من الحياة وليس الموت، لأنه كان يرحل إلى أقصى الحدود إلى عوالم، الحيرة، القلق، والألم الجميل، والتحسر الذي يقوده نحو اكتمال المشهد، ويصبح فى مطاردة يومية وفى محاولة لامساك بذلك الشيء الهارب المنفلت من الذاكرة، من أقصى حدود الذاكرة، ويستمر فى محاولاته هذه وترسل الروح فلاشها لترسم نيابةٍ عن المبدع، لكنه يحتاج لمحرك ذاتي باعتبار ان النص قابع في دواخله، ويكرر ذلك السقوط ألمتماه محبباً إلى نفسه لعبة التداول هذه، لقد أعلن الناقد الفرنسي ( رولان بارت ) ان البحث عن ينابيع عمل ما ليس إلا استجابة لأسطورة النسب ( فكل نص يرجعنا بطريقة مختلفة إلى بحر لا نهائي وهو المكتوب من قبل ) لان الأنا التى تقترب من النص هي في الواقع مجموعة متعددة من النصوص الأخرى، ذات شفرات لا نهائية أو بالأحرى مفقودة الأصول ضاعت مصادرها، وعند الشاعر اللبناني خليل حاوي ان اللغة الشعرية لديه لغة منفتحة على مرجعيات مختلفة، تدخل في علاقات سيميائية تقوم على الحوارية الأسطورية، لقد قام خليل بتحديث الرمز التموزي والمسيحي،وهو استخدام التموزي دلالياً للرمز المسيحي، بما يحمله من تقديس ألأرمني، مثلما نجده في شعر ( محمود درويش ) الذي يعتبر مطوراً واستمرارياً للقصيدة التموزية، ومولهاً الأرض ومنزها بوصفها ( المعنى ) بالمدلول ألاهوتي، الذي يتعالى عن الصورة أو التجلي أي بوصفها الخالق أو المطلق، وعند حاوي نجد تواتر هذا الاستخدام (الميتافيزيائي ) الانطلوجي للأرض بوصفها قوة إلهية كونية، تستوعب في بنيتها الشعرية الرمزية الديناميكية، إسقاطات الموقف القومي الحضاري ومعاناة الشاعر فى ضوئه للكونية، لقد تأثر حاوي بالاتجاه (الشخصاني) النامي في الحركة السورية القومية الاجتماعية، ذات الاهتمامات الفلسفية،وبوصفه شاعراً نبياً جماعياً أو رئياً يتكلم بلغة الرموز الأصلية، وهذا التعيين يجد نفسه وبصورة معقدة فى تجربة ( الزوبعة ) التى رمزت إلى حركة الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي انخرط فيه حاوي وكتب قصائد ( النهر والرماد ) أو أناشيده كما كان يعبر عنها، إبان انفصاله المفجع الموجع عن الحزب على حد تعبيره، كان يشعر بالخيانة والمهانة وبفشل التئام الجرح العربي زاده توتر وقلق وانعزال، وأصيب بالخزي والعار في تلك الليلة المتشائمة على العرب باجتياح إسرائيل لوطنه، دخل في صدمة من الصمت مندهشاً لانتحار وطن ومثلما لعلع الرصاص في شوارع بيروت متحدثاً لغة العنف والقتل، انطلقت رصاصة نحو صدغه بصوتها المفجع لتحاور وترد إلى الجماعة أسئلتهم الوجودية، كان يحب الوطن مثل حبه للمسيح عليه السلام مجسداً مقولته ( من أحب أباً أو أخاً أو أماً أكثر مني لا يستحقني ) ومن هنا هتف حاوي في ( الناي الجريح ) ممتصاً قول السيد المسيح :- ربي متى انشق عن أمي أبي / تلك التى تحيى على انتظار... والمبدعين كائنات شفافة من الجنس البشري، وأصحاب ذوات فردية تعصف بهم الأهواء والنوازع وترهقهم الخيارات، لهم معاناتهم الخاصة والشخصية، وان جميع نصوصهم تشكل لنا مفازة كبيرة من تقاطعات الأسئلة، فتفتح إمامنا أثيمات عديدة ومن أهمها، القهر، العبودية، المعاناة، الحب، لان الكتابة عالم الذاتية ومرآتها وان الشخصية الكاتبة تحرر في نصوصها وتحلق عوالم جديدة، مثلما عرفت الناقدة الفرنسية ( جوليا كرستيفا ) المبدع بأنه جهاز نقل لساني، يعيد توزيع نظام اللغة واضعاً الحديث التواصلي، ونقصد المعلومات المباشرة فى علاقة مع ملفوظات مختلفة سابقة أو متزمتة. وان ذات الكاتب لا تصل إلى متلقي أو القاري إلا عبر النص، وتقييم النص لا يكون إلا عبر القاري، ولا يكون للكاتب وظيفة كاتب إلا بوجود النص المدهش، خيالياً أو واقعياً ، يمكن ألان ان نستنتج بهدوء بان البحث في مجاهل نفس وروح المبدع، بحث إشكالي يتصل اتصالاً قوياً بمنابع الأسئلة الكبرى عن الوجود والماهية، كما يتأسس الكلام عنها ليتسع ليشمل بعد ذلك الكلام عن التجربة الشخصية، المبنية على التفرد والفردانية كوجود خاص متميز، ومقدرة تلك الشخصية ان تختار إمكانيتها فى الوجود، فالإنسان هو الإمكانية، بمعنى إمكانية ان يكون ما يشاء وفي الوقت الذي يختار، فليست المسالة إذن هي كيف إنني كائن في هذا العالم، بقدر ما هي المسالة ان أكون ما إنا عليه كائن حقاً، دون ان يشوب هذا التأكيد أي تفضيل قيمي، انطلوجي، أو أخلاقي، وهنا يصرح المفكر ( والتر بنجامين ) الذي بدأ قريباً من مدرسة ( فرانكفورت) ثم ما لبث ان اختلف معهم في موقفه ازا دور الحداثة في المجتمع الرأس مالي، وفي مقاله الشهير بعنوان ( العمل في عصر إعادة الإنتاج الإلية ) عام 1936 قال ( حدثت ثورة في علاقة الفن بالجماهير لان العمل الفني والأدبي لم يعد مقصوراً على فئة محدودة، من الموسرين والأثرياء تستطيع اقتناه، ولم يعد الفن أسير الطقسية التى ارتبط بها منذ الحضارة اليونانية، والتي اتخذت إشكالا متعددة في المجتمعات الحديثة، منها نزعة الفن من اجل الفن، وينطلق أيضاً المفكر الروماني ( لوسيان غولدمان) صاحب مدرسة ( البنيوية التكوينية) أو التوليدية من حيث الفصل الذي يقيمه ( لوكاش) بين حياة الكاتب وما يقوله النص، مؤكداً ( انه كلما كان العمل تعبيراً صادراً من مفكر أو كاتب عبقري، أمكن فهمه في ذاته، بدون ان يلجا المؤرخ إلى سيرة الكاتب ا والى نواياه ) هذا الكاتب العبقري،هو الذي لا يحتاج إلا لتعبير عن حدسه ومشاعره، لكي يعبر في ألان نفسه عما هو جوهري، بالنسبة للتحولات التي يتعرض لها ومن هذا المنطلق، أمكن للعمل الأدبي أو الفني ان يحمل شكل الواقع الخارجي عبر تركيبته أو بنيته ذاتها، إما ( نورمان هولاند ) فيرى ان عملية القراءة وتفاعل القاري مع النص هي عملية علاجية، إذا يكتشف القاري في الأدب ( موضوع الهوية ) الخاصة بهي، ويتعرف على رغباته ودوافعه وذاتيته، وهكذا تنتقل الرغبة من النص إلى وعي ولا وعي القاري، وبهذا يكون النص خدم المؤلف في التعبير عن رغباته ودوافعه، وخدم القاري الذي يطاوع ويكيف النص حتى يحقق مهمته الخاصة، وهناك أيضاً آخرون يرون بان هناك علاقة نفسية بين طبيعة الشعر واللغة أو بين علاقات التداخل النصوصي للشعر والشعراء، فيرى ( هارولد بلوم ) ان العلاقة بين شاعر قديم مؤثر، وشاعر جديد تابع هي علاقة ( اوديبية ) علاقة الأب بالابن، تتسم بالسيطرة، ولنا في ذلك خير دليل الشاعر السوداني عبد الرحيم أبو ذكرى الذي يتماها مع أيقونات الشاعر الروسي فلاديمير مايكوفسكى ووصل إلى مرحلة التلاشي في دواخله، لقد كانوا هولا الشعراء يعيدون إنتاج الموت عن رغبة، لقد رثى مايكوفسكى مواطنه الشاعر ( سيرغي يسبنين ) عقب انتحاره عام 1926 بقصيدته المشهورة / كومة عظام متهاوية / تبدو في ناظري جداول حمراء/ تفيض من شريانك المقطوع / ولكن قف كفي هل أنت في كامل عقلك ؟ / حتى تترك كلس الموت يكسو خديك...... وفي مساء 13 ابريل 1930 سدد فلاديمير مايكوفسكى فوهة مسدسه نحو جبينه ثم ضغط على الزناد، كان قد فرغ لتو من تسطير وصيته الأخيرة، هل شغف مايكوفسكى بسيرغي عجل في رحيله إما لأنه شاعر يتوق إلى العوالم الخفية ؟ وهل حب أبو ذكرى وتأثره بكتابات مايكوفسكى جعله يصبح وجع الإبداع السوداني لدي الروس ؟، الأغرب ان عبد الرحيم ابوذكرى رثى الشاعر العراقي ( بدر شاكر السياب ) متوجعاً موته ورحيله الطبيعي، وذلك فى قصيدته ( موت الغريب على الخليج ) ويخاطبه قائلاً :- وأنت ليس عندك يا صديق الناس إلا هذه الرقدة / وكنت النسر حلق تحت وقد الشمس / وسار إلى مسيل الشمس الضوء وابتردا / . وكتبت هذه القصيدة في عام 1965، ورحل أبو ذكرى إلى سديم الموت مطارداً خيال معلمه وملهم ايقونياته الأسطورية، دون ان يسمع احد حفيف الأجنحة اعتلى السموات التى تفور، ولأنجم المتلاطمة ووجد قرينه فى شمس الفراديس، علينا ان نملا الفضاء صراخاً مع رفيق دربه الأستاذ كمال الجزولي، لكن لماذا مايكوفسكى ؟؟، وكثيراً من الأدباء تطرقوا إلى مجاهل الروح الإنسانية، وحاولوا فك رموزها بكل التقنيات السيكولوجية، ومن بين هولا الكتاب الكاتب البرازيلي ( باولو كويلهو ) الذي يأتي اسمه مباشرةٍ فى الأهمية بعد مواطنه ( غابريل غارسيا ماركيز )، ولد في ( ري ودي جانيرو ) فى عام 1947 عمل في الإخراج المسرحي وكتب أغاني لمطربي البوب البرازيليين، واصدر أول عمل روائي، رواية ( الخيميائي ) ولقد ساهم هذا العمل في انتشاره عالمياً، وتقدمه ألان أمريكا كعمل سيمفوني، واصبح احد أهم الروائيين العالميين المعاصرين، وتتحول إعماله إلى أولى الظواهر الأدبية الحقيقية الواسعة الانتشار،ومنذ ان اصدر أول عمله هذا عام 1987 لقد انتشر بسرعة البرق في أكثر من 120 دولة وترجمت هذه الرواية إلى 45 لغة عالمية وبيع منها أكثر من 27 مليون نسخة وحازت على العديد من الجوائز الأدبية، وروائية ( فيرونيكا تقرر الانتحار ) هي العمل الأخير للكاتب الذي أراد هذه المرة ان يكشف القضايا والمسائل التي تتعلق بالحياة والموت، كما أراد ان يبرهن على الأسلوب الذي يمكن من خلاله الإنسان إلى الجنون و ( كويلهو ) ذات نفسه كان ادخل إلى مستشفي الأمراض النفسية والعقلية ثلاثة مرات، وهو لازال شاباً صغيراً لعلاجه من مرض عقلي قيل انه أصيب بهي، وكما يقول كويلهو :- ان عملي هذا يدور حول أهمية الاستماع إلى عواطفنا، كما انه مستوحى من تجربتي الشخصية، عندما كنت فى مطلع شبابي، أدخلت إلى مستشفي الأمراض العقلية لأنني كنت أريد ان أصبح كاتباً، وهذا ما كانت ترفضه أسرتي، لكنني قاتلت من اجل ذلك حتى تحقق لي ما أريد، لم أفكر قط في لوم احد من إفراد أسرتي، لكنني أدركت أهمية ان يكافح المرء من اجل تحقيق أحلامه، ان ( فيرونيكا ) هي رمز هذا الصراع وعندما أدخلت المستشفي المرة الأولى، كنت في السابعة عشر من عمري، ثم عدت إليها وانأ في الثامنة عشر، وبعد ذلك في التاسعة عشر من عمري، وكنت اقضي هناك فترات من الوقت، تتراوح ما بين العشرين يوماً والشهرين، ثم نجحت فى الهروب من هذا الكابوس، مع ذلك لم يسأورني يوماً ذلك الشعور، بأنني ضحية لان ما مكان يريده والدي هو تامين مستقبل لي، ثم يائسا من ذلك وخلاصة القول هي إنني لم اتبع الطريق الذي رسماه لي والدي، وفي النهاية تبين لهما إنني لم أكن مخطئاً فى تحديد مستقبلي فلاما نفسيهما، واراهن على ان السبب الرئيسي على مخاوفهم، كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كان تمر بها البرازيل، ان أكثر ما تميزت بهي رواية ( فيرونيكا تقرر الانتحار ) هو إسهامها في حدوث بعض التغيرات، فيما يتعلق بالقانون البرازيلي ودوره في الحياة العامة، وكويهلو يشير إلى ان الرواية وأياً كان البلد الذي تصدر فيه فلابد ان يودي ظهورها إلى إحداث بعض التغيرات، وبالنسبة لهذا العمل على وجه الخصوص، فان كويهلو لم يكتبه فى الأساس ليؤدي إلى تغيير القانون الخاص بالاعتقال التعسفي، لمن يشتبه في إصابتهم بأمراض عقلية، ومع ذلك كان لهذه الرواية دور كبير الذي تمثل في الإفراج عن مشروع قانون تأخر صدوره حوالي عشرة سنوات، يقضي بوجود طرف ثالث إلى جانب المستشفي المعالج، للتثبيت عن حالة أي مريض متهم بالجنون، وهذا التأثير لا يمكن ان يشعر المريض إلا بالرضى، إما فيرونيكا بطلة الرواية التي يشبه مصيرها مصير كويلهو فتقرر الانتحار، عندما تواجه بقوة ضغوط خارجية وتمارس ضعفها إمام هذه القوى التي لا تستطيع تغييرها ورغم نجاتها من الموت، إلا أنها تدخل إلى مصحة الأمراض العقلية، حيث تبدأ معاناتها بالسؤال حول معنى المرض العقلي وحول ما إذا كانت المعالجات والأدوية التي تعطي للمريض بالقوة والفعالية المثلى هل هي وسيلة لعقاب أولئك الذين لا تنطبق عليهم شروط الإنسان العادي، وكأي كاتب روائي فان كويهلو قد لجا لهذه المساحة القصصية من اجل تسريب شيء من الواقع، وإبطاله هم الأشخاص الشديدين حساسية ويمتلئون بالشكوك والمخاوف كما نفعل نحن تماماً، ونسال كما تسال فيرونيكا في النهاية :- هل عشت حياتي إلى النهاية ؟ هل حققت ما أصبو إلى تحقيقه ؟ ماذا افعل كي أساهم في الحياة بشكل أفضل ؟.... كلها أسئلة تقود في النهاية للتوصل إلى ان هذه الرواية ليست بصدد الإعلان عن الموت بل الإعلان عن الحياة، ورغم تعقد التحليل النفسي وتعقد قضياه، فان فرضياته التقليدية مازلت قائمة:- 1 هناك دائماً تفاعل بين حياة الكاتب والقارئ أو المحلل النفسي وبين رغباته وأحلامه وتخيلاته الواقعية والغير واقعية. 2 – يسعي التحليل النفسي دائماً إلى كشف أسباب ودوافع خفية عند المؤلف أو القارئ أو المحلل النفسي . 3 – معاملة الشخوص في العمل الأدبي أو الفني على أنهم أشخاص حقيقيون لهم دوافعهم الخفية، وتواريخ طفولتهم المتميزة، وعقولهم الواعية والغير واعية . لهذا تنحصر موضوعاته السائدة في النزعات الإجرامية و الأمراض العصبية، والذهان السادية، وتعذيب الذات، والانحراف الجنسي، وعلاقة الأب بالابن، أي العلاقة الأوديبية، ولتغطية مثل هذه المواضيع فان التحليل النفسي يفضل الروايات والمسرحيات على الشعر ..... وكتب ايضاً الطبيب المصرى/ مصطفى محمود كتابه ( اناشيد الاثم والبراءة ) الذي يحلل ويتحدث فيه عن الانتحار قائلاً :- فالانسان لا ينتحر الا في لحظة دكتاتورية مطلقة، وتعصب اعمى لا يرى فيه الا نفسه، والانتحار في صميمه اعتزاز بالنفس وتأله ومنازعة الله في ربوبيته، والمنتحر يختار نفسه ويصادر كل انواع الوجود الاخر، في لحظة غل مطلق في لحظة الم كالجحيم، ان السلوك الانتحاري هو سلسلة من الافعال التي يقوم الفرد من خلال تدمير حياته بنفسه، لأسباب انسانية مفزعة منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو حالة من الفراغ الروحي، واسباب اخرى تتعدى ذلك يربطها علماء النفس بحالة القهر والاذلال والتهميش المتعمد في المجتمع، وان اعلى حالات الانتحار توجد في الدول الاسكندافية، السويد – النرويج – الدنمارك، وتصل حالات الانتحار في هذه الدول الى 40 فرد من كل 100 الف من السكان، و في بعض دول اروبا الشرقية مثل المجر وصلت هذه المعدلات الى 40 – 38 من كل 1000 الف فرد من السكان، وفي فرنسا والولايات المتحدة الامريكية وبريطانية تزيد نسبة الانتحار الى على 20 فرد من كل 100 الف فرد من السكان، وفي العشرة سنوات مضت كانت نسبة الانتحار في الدول العربية والاسلامية لا تزيد عن 2 – 4 لكل 100 الف فرد من السكان ويعود ذلك لأنتشار الايمان بمقومات الحياة البسيطة، وتحريم الدين الاسلامي لقتل النفس بغير حق، والان اذادت نسبة الانتحار في الدول العربية والاسلامية بمعدلات كبيرة، ويعود ذلك للضغوط الاقتصادية ودكتاتورية الحكام وعدم وجود افق للحرية والديمقراطية، والظلم والتهميش السياسي والاجتماعي، ومن اغرب ما وصلنا عن موضوع الانتحار، كشفت وسائل الاعلام الفرنسية ان مدرساً فرنسياً اوقف عن العمل، بعد ان طلب من طلابه كتابة مقالات يتخيلون فيه انفسهم قد قرروا الانتحار، وذكرت صحيفة ( شارينتي ليبري ) الفرنسية ان تصرف المدرس اثار غضب اولياء الامور، واتهم خبراء فرنسيين المدرس بالتصرف الغير مسؤول، في وقت تشهد فيه فرنسا ارتفعاً في حالات الانتحار. وكما قال الفيلسوف الألماني ( شوبنهور ) :- ان الحياة كلها الم وابهام وتعقيد .... انه الموقف الفلسفي المتشائم الذي يلخص قوله:- لست ادري لماذا نخدع انفسنا بهذه الزوبعة التي تثور حول لا شيء ؟ الى متى نصبر على هذا الالم الذي لا ينتهى ؟ متى نتدرع بالشجاعة الكافية فنعترف بان الحياة اكذوبة وأن اعظم نعيم للناس هو الموت ؟ كان هذا النبض هو الخروج من شرنقة الحياة بمذلاتها، الى نبض الموت الذي يبقى خافتاً بغموضه، كنار خفيفة تحت رماد، فالبحث المضني للمبدع في جميع المطارح والامكنة، يبقى بمنزلة صرخة في العدم، فكتابات المبدع جنة صغيرة كونها باحساسه المرهف، في ارض موحشة ونهر متقلب بانفعلاته في حياة رتيبة، فالياس جواب العجز الابداعي عند المبدع، حول غموض الحياة والموت بحثاً عن حل لطلاسم الوجود الكبير الذي يحاول ان فك اسراره الغيبية، انه ما يجعل رعب الحياة في عرف المبدع كالرعب من الموت نفسه عند الاخرين، ذلك الرعب الذي يدمر اساس الحياة ابتدأً من الحرية الى الطبيعة حتى مصادرة الحلم الجمعي، وعبثية البحث عن نافذة او كوة صغيرة ياتي عبرها الضوء، وذلك ياتي عبر اسطورة خلود الابداع الانساني، المبدع اشبه بعصفور مصاب بداءBERI BERI يموت العصفور جوعاً وهو ينظر الى الحبّ الملقي امامه ولا يلتقطه بمنقاره، جميهم كانت كتاباتهم تصتبغ بالنكهة الانتحارية، كتاب عرب او عالميين ممن وجدوا ان الحياة لا تستحق العيش من امثال، الروسية انا مارينا تستفيتا وخليل حاوي وسليفيا بلاث وفرجينا وولف وعبد الرحيم ابو ذكرى وارنست همنجواي وغيرهم من الكتاب، لقد وجدوا مخرجاً لعذابات حياتهم اليائسة بمصادقتهم الموت، ليذيلوا نبض الالم بشفافية عميقة، فالانسان تلميذ مبتدي والالم معلمه الكبير، فالمبدعين شعراء او كتاب يدخلون الى مغامراتهم الى الحياة باجلال وتقديس، نصياً ونظرياً مثلما ردد الانجليزي ( برنارد شو ) :- في الحياة كما في الشعر،اللاقاعدة هي القاعدة الذهنية .... فالمبدع يقع اسيراً لطغيان النص هذه الالهة المغرورة بكل ادواتها وموثراتها النفسية التي تقبع في عمق النفس البشرية، والكاتب فتح بواب هذه النفس بشفرات ابداعه واصبحت الان واقع حقيقى لدراسة البشر وحالات الابداع، ورصد لهم الهم اليومي باحترافية، لذلك اهتم علماء النفس بتفاصيل اعماق المبدع في جميع تخصصات الحياة، ومن نتائج هذا التامل في النفس اخرجوا للعالم احدث النظريات في الفن وعلم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع، في محاولة لسبر اغوار النفس البشرية بغموضها الثر المتوحد بالالام
الاثنين، 28 أكتوبر 2013
أنهيار قلب
إنهيار قلب
أترحلين إلى وحيدك المشتاق
أخذوكِ بدوني ..............
يا ذأت أثواب الجدائل
والنخيل والدمع الهتون
في هذا الصباح الكئيب
تركتني خلف ضفافك
الميساء في إنتحار
بكت حقول البرتقال
بكت الغابات ........
وأزرفت دمع الفراق
من الجفون إلى الجفون
ودندن قلبي لحناً حزيناً
..............
يصنع من موته فرحٍ
للاعياد ....
ينهار قلب الإنسان
مرتين عند عشقه
وعند موته .......
أعواماً والتاريخ
يهزأ بي ......
ويعصف بي جنوني
أعواماً والأيام المعدمة
البائسة تشتري أسفي
وتخدعني سنيني ...
أنا من كنت اهمس
في أذنك .......
وأحتلب الشذى من
نبعك الطري ......
وتنامينا عندي كل
ليلة .......
وتلتحفين عطر
الزيزفون .....
وتداعب نسماتي
خصلات الوسامة
والحنين ......
كيف تتركِ
سجون عشقك
خاليات أبداً
من سجين !!
أو مصلوباً تحت
سياط جلادكِ ...
اجيبيني يا لحظة
هذيأني .........
كيف أعفو عن
القساة ....... ؟
وأمنحهم مني
صكوك الغفران
وأوراقاً
من الكلمات
محواً للظنون
..............
يوماً ما سوف
أشتري قلبٍ
أخر ........
أجعله بيتاً
من غير
أسواراً
.........
أنثي زخة مطر
أنثى زخة مطر
أيها المطر الدافئ لا تبخل علينا

بعطائك، بزخاتك، حتى ولو في
الشتاء، شيء اخر نرحل نحن
وإياك بعيداً بعيداً ما وراء الأفق
فذات مرة رأيتك هناك ومعكِ
رفيقتك ذات اللون السماوي
.. امنحيني الفرح .. امنحيني
المرح .. خذي معنا شيئاً كنت
احتفظ به مع اشيائي منذ الصغر
.. ذاكرتي الأخرى، فمن غيرها
لن أجيد المرح ولا حتى البكاء
.. فحين كنت قربك غاب قوسين
أو أدنى، كانت تغذيني بغزلها
وتمددني بفرحها .... أنثوية
الشفتين والمحيا ........
كنت أطيقها وتطيقني
ويطيق فأرها قطتنا الأفريقية
الشرسة .. كنت أراهما ...
يخلقان حواراً ويعدان لمنتدى
سلمى لحل الإشكال التاريخي
رغماً عن أنف الاطراف الأخرى، غير ذات المصلحة فى هذا الصلح، امنحنى المرح يا أيها المطر خذني خذني معك وذاكرتي ايضاً، واغسلني بالماء والبرد والثلج، ونقنا من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، فالفردوس ليس بعيداً من هنا، ومأ دون الفردوس الغرق، الإجتياح؛ دعني أحدثها عنكِ وعن أسمارك وأسمارنا .. قالت الذاكرة ذات مرة : كنت أتلصص عنكِ وعن ذكراتك، فرأيتكما تلقيان الهمس وتجدلان الشعر، حتى ظننتكما صويحبات بعض، لكني حدقت فيكما بإمعان كنت شيئاً بعد الآخر وصدقت نفسي انكما ابعد من مدى ذاكرتى، فحاولت أن اقلدكما في جدل الشعر لكنى فشلت، وجدتكما تتعاطيان الورد والقرنفل بين ايديكما، كادت تقتلنى رائحته، حاولت إيجاد الورد ففشلت ... غير أنى في النهاية طفت بداركم أطرق بابه للتبرك وليس سوى رغبة لعل الله يمنحنا شيئاً مثل ذلك ... والمطر ما زال يواصل الألق والهطول والتوهان، يتوه ويتوه في عمق المدينة، يتربص بإثنين فى منتصف الطريق ذهبا أو رجعا من رحلتهما معاً، كانا يتنغما بين الفينة والأخرى، وظلا يمدان يديهما معاً حتى امتلأ صدريهما عصافيراً خريفية، وظلا هكذا حتى اصبحا بستاناً من عباد الشمس .. غير أنني ظللت أحترمهما، فلم تاخذني شهية التربص في ذلك اليوم، فتركتهما يخلوان ببعضهما، لكنى مأ فككت أن أراقبهما بحذر فما زال الوقت مبكراً، ووجدت نفسي غير قادر وعاجز حتى من منع مجاراة نفسي وإشتهائها ........
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)