الجمعة، 25 أكتوبر 2013

الرمز في النص الادبي - مقال




الرمز عند المفكرين البنائيين الفرنسيين


الرمز في النص     الادبي يمهد الى التواصل الحضاري،والبحث في اعماق الذات واحداث الحياة والعلاقات بين البشر، بغض النظر ان كان الاسلوب السردي في النص رمزي أو واقعي أو رومانسي ان رسوخه في عقل المتلقي هو ......  
الاحساس الملموس، مثلما يشير المفكر البنائي الفرنسي ( ليفي ستروس ) 1 الذي تقوم نظريته على فكرة بسيطة في ظاهرها، بان هناك عقلية لا شعورية عامة تشترك فيها كل الثقافات الانسانية، رغماً عن اختلاف الهويات، والوسيلة الوحيدة للكشف عن هذه الابنية اللاشعورية وفهمها هي اللغة، وقد طبقوها هؤلاء المفكرين في عدة مجالات تخصهم فاستعان بها ( رولان بارث) 2 في مجال النقد الادبي، وطبقها ( جاك لاكان ) في ميدان التحليل النفسي، واستخدمها ( لو التوسير ) في تحليله النقدي للماركسية، كما طبقها ( ميشيل فوكو ) 3 على الانساق الاجتماعية وتاريخ الافكار، وكانت أداتهم جميعاً في دراسة النص و إخضاعه للتحليل اللغوي في نظرية ( فردينان دوسير ) أما ( ديريدأ ) 4 فانه لم يتقيد في كتابه ومقالاته بميدان وأحد، وانما تنقل بين مختلف ميادين المعرفة مع توجيه خاص الى النص الادبي الفلسفي، وتكفي نظرة واحدة إلى مقالاته التي جمعها في كتابه عن ( الجرأماتولوجية ) مثلا لتبين مدى اتساع افقه واحاطته، فهو ينتقل من ( افلاطون ) إلى ( فرويد ) إلى ( سوسير ) و الاديب الفرنسي ( جان جنيه ) إلى ( هيجل ) و (هوسرل ) إلى اخره، وهو في هذا كله يدرس النسق الفكري الذي يكمن ورأى النص ذاته أو تفكيكه، وعلى العموم فان العنصر الأساسي يكمن في دراسته البنائية، لهؤلاء الكتاب والمفكرين وهو نظرية العلامات أو الرموز اللغوية وفي هذا يتفق دريدأ مع البنائين، والتفت ايضا إلى هذا المفكر جاك لأكان 5 لقد كان يبرهن على ان اللاشعور يعمل باستخدام ( الدلألأت ) ولذأ ان اللغة آلتي كان يكتب بها بعيدة كل البعد عن السلاسة والوضوح، بالنسبة إلى اللغة الفرنسية العادية ... وليس الوضوح لكل البنائيين الفرنسيين ميزة أو فضيلة، فاللغة فيها اكثر واعمق واهم من مجرد السلاسة والوضوح، التي قد تجعلنا نتوهم أننا نمتلك اللغة ونتحكم فيها أو أننا نتفهم الحياة من حولنا دون ان نحتاج إلى بذل  أي مجهود عقلي لذلك، وغموض الاسلوب وتعقده خير وسيلة للقضاء على ذلك الوهم، ولقد كان جاك لأكان ينادي ويردد ويؤكد طيلة الوقت، على ضرورة العودة إلى ( فرويد ) بحيث اعتبرت هذه العبارة رمزاً على مدرسته وعلى موقفه الخاص .... من المعروف هناك العديد من الحضارات القديمة آلتي مارست نقد النص من النواحي الجمالية والفلسفية، ونقطة الانطلاق تبدأ بنصوص ( هوميروس ) والشعراء الاغريق، ثم انتقلت هذه النصوص الرمزية إلى الأسطورة الدينية، وبعد فترة من الزمن حاول علماء الكلاسكيات واللاهوت وضع قواعد تحكم التفسير، واستيعاب النص الرمزي في النصوص الكلاسيكية الدينية، لكنها لم تلبث أن اتسعت لتشتمل النصوص الادبية وغيرها، بل تجاوزت هذا إلى شتى مجالات العلوم الانسانية، على أساس أن الحياة الانسانية عملية تضفي معني على الاشياء، واشار إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي ( بول ريكير ) تحديداً في رمزية النص، وظهر اثناء بحثه عن مشكلة الرمز ان هناك اسلوبين لدراسة هذه المشكلة، أما من خلال الاساطير أما من منظور ( باثولوجي ) وبناء على ذلك توجد قرأتان مختلفتان لفهم الرمز، أحدهما تتوخى البحث عما في هذه الرموز من إشارات أو التشبه إلى معاني السمو والارتقاء ..... والاخرى ترمي إلى الكشف عن ما تشير اليه الرموز النصية من انحطاط وتدهور بمعنى أن احدى القراءتان تسلك الخط الديني اللاهوتي الذي يتطابق مع فلسفة الايمان، أو بمعنى اوضح حالة التصوف عبر النص، بينما تسلك القراء الثانية طريقة الشك، التي نجدها في أعمال ( نيتشة ) و ( فرويد ) وثمة صراع بين الاتجاهين كرس له ( بول ريكير ) 5 في كتابه عن التأويلات ( مقالات في الهرمنيوطيقا ) 6 واللغة ليس امتلاك خاص يؤتي بها كل فرد إلى الحياة حين يولد، انما هي نظام يولد فيه جميع أفراد المجتمع و يتدرجون فيه منذ الطفولة، واللغة تؤلف اهم عنصر من حيث التنشئة الاجتماعية، وعلى هذا الاساس يمكن اعتبار اللغة ظاهرة وليس امتلاك شخصي من حيث أنها تتعدى الافراد، وحين يكتسب الفرد اللغة من المجتمع فانه يتمثل في الوقت ذأته جميع العناصر الثقافية السائدة . 
                      
 الرمز في الخطاب الشعري العربي 
                        
 
توظيف الرمز في الشعر اصبحت مسألة تشكل نظامٍ خاص داخل بنية الخطاب الشعري، وقد يبدو هذا النظام عصياً على الضبط  والتحديد  بضبابية الرؤية المراد طرحها، ولكثافتها نستحضر التاريخ متداخلاً مع ( الميثولوجيا ) والخرافة، لذلك يصعب علينا تحديد أوجهها كاملة وذلك لتناهيها مع الحقول المعرفية الاخرى، مثل النص الرمزي في التاريخ والميثولوجية، والنصوص الدينية، والاسطورة والتراث ( الفلكلور ) وقليلين هم من كتبوا من الباحثين والنقاد في مجال الادب عن هذا الموضوع، ومثلما قلنا تاريخياً  كانت الرمزية منذ العصر الجاهلي ( قبل الاسلام ) وحتى الان عند الشعراء والكتاب هي الملاذ الأمن بالنسبة لهم، للانتصار على خيبتاهم وتخطي فواجعهم وهزائمهم، وسياسيا كانت محاولة لخلق بديل نقدي جديد اكثر ًرونقا وجمالاً، بمعنى اخر انها المساحة التي يرى منها المبدع العربي النور والفرح والحرية، لانها تشكل للمبدع حالة من التوازن النفسي مع ما يحيط به وبمجتمعه، انها نوع من الحقيقة المخدرة من الظلم والكبت الذي تمارسه الانظمة العربية اتجاه مواطنيها ومبدعيها، فبواسطة اللغة تتم عملية الحلم والتخيل والاستذكار، لذلك اصبحت الرمزية ثورة روحية في الادب، ضد كل الحركات الادبية التي تصور الاشياء والمواقف التي نراها باعيننا دون ان ًنتاملها روحياً .... مثل مقولة الاديب ( أرثر سيمونز ) :-  في تسمية الاشياء قضاء عليها وفي الاشارة اليها خلق لها.
 
النموذج الاول / الشاعر نزار قباني 
في قصيدته الرائعة ( اعتذار لأبي تمام ) 7 التي يقول فيها :- اذا كان تلاقينا لكي نتبادل الانجاب او نسكر / ونستلقى على تختٍ من الريحان والعنبر / أذا كنا نظن الشعر راقصة مع الافراح تستاجر / وفي الميلاد والتأبين تستأجر / ونتلوه كما نتلو كلام الزير أو عنتر / أذا كانت هموم الشعر يا سادة هي الترفيه عن معشوقة القيصر / ورشوة كل من في القصر من حرسٍ وعسكر / أذا كنا سنسرق خطبة الحجاج والمنبر / ونزبح بعضنا بعضا لنعرف من بنا الاشعر / فاكبر شاعرٍ فينا هو الخنجر ...... وكعادة نزار قباني يرحل عبر التاريخ الى مدن ازدهرت بعبق التاريخ، الاندلس ، قرطبة، الكوفة، دمشق، وعبر التاريخ الاموي والعباسي حتى مشروع القومية العربية الذي سقط قبل اكتماله، مثل جنيناً لم يكتمل لازال نزار يصدم القاري العربي ويدوخه بكلام غريب لكنه جميل، يرصد الرموز التي شكلت التاريخ من شخصيات واماكن، فيساهم في تقريب المسافة بينه وبين القاري لأن هذا الحوار سيفسد حركة الرموزودلالتها، والمساحة بين نزار و القراء مساحة تحسس الجمال لا فهمه، لان عندما يتطابق توقع القاري مع منجز الشاعر فان الشعر سيصبح عبئاً على نفسه وعلى الشاعر، لقد لجاء نزار الى تلك الشخصية التاريخية ( ابى تمام ) يحاور روحه رمز القدر و الماضي، كان يتالم فيخرج حمم الشعر من جوفه يهذئ وينادي من خلف الفضاء السرمدي من زمن الماضي، جميعهم كانوا ينصتون اليه، رغمٍ عن تلك التحليلات التي تؤكد ان اللجؤ الى الفكر التاريخي أو الاسطوري، انه هروب من الواقع ودعوة لسيادة الظلم والغاء العقل .... فالفكر الرمزي والاسطوري والتاريخي، سواء كان عقلاني أو غير عقلاني له منطقه المختلف تمامٍ عن منطق الفكر الموضوعي، والشخصية التي توجد في النص الادبي شعر وغيره من الابداعات الاخرى، دائما ما تضاف اليها صفات القداسة الغامضة على مواضيعها وافعالها .... والاسطورة التاريخية لها عملياً مستلزماتها سواء كانت رمزية او تستند للواقع، وتنتقد وتفند بها المجتمع والسلوك السياسي الطبقي المصنع، فالوسائل المتولدة من جراء هذا الرمز التاريخي، إذا جاز التعبير تجعل الشاعر مقيد بالمسلمات الغيبية، وتدخله مرحلة العبودية لهذا الرمز الاسطوري، وتجعل الشاعر يشعر بان الاسطورة نفسها تقدم له مثالاٍ لأرادة القوة الغيبية، سواء من ناحية الايمان أو الاستجارة و ترافق الاسطورة الشاعر في حله وترحاله باعتبارها الملهم الجمالي ورمزٍ للكفاح والقوة، وبذلك تعطي المتلقي شيئاً من الاصالة في فترة مأ من الزمن، وقد تتعدد مستويات هذا الزمن من حيث الاضاءة والعتمة، ويبقى الشاعر على صلة قوية بصيرورة التاريخ وتشكيل طبقاته الاجتماعية ... أما الاسطورة الغيبية خطاباً أو نصاً ادبياً قادرة على توسيع افاق المخيلة، ويتم ذلك عن طريق الحلم أو التخيل أما الادب في بنيته الرمزية العميقة  نظام رمزي قادر على الايحاء والتأويل، من ثم كشف اللاإنساني واللاأخلاقي في رؤية المجتمعات البشرية ونظام قيمها، وعندما تطرق لهذا الموضوع المفكر الفرنسي ( رولان بارت ) 8 بقوله :- أن بنية اللغة التي أتحدثها تتضمن علاقات استلاب حتمية، أن تتحدث بها يعني أن تموضعك في مكان، أن اللغة المعطاة مأ هي الا ردة فعل معممة أكثر من ذلك انها ليس ردة فعل تقدمي .. بل فاشي لأن الفاشية لا تمنع ذلك الكلام بل تكمله ... و مأ ذكره بارت اثار ردة فعل شجالية استمرت لزمن طويل، وكان من نتائجها أن كرست مقولة ( أن اللغة المعطاة هي سلطة بذاتها لأنها تدفعنا لإستخدام نماذج جاهزة، تتضمن الكلمات نفسها وتقوم باختزال كل مأ حولها إلى حد الاسترقاق، حتى اننا لا نستطيع الإنعتاق من أسرها لأنه ليس هناك شيء خارج اللغة المعطاء لأننا لا نستطيع الهرب ) ويقول بارت مستعيراً قول ( سارتر ) من تلك الخدعة المعافاة المختالة المتحررة دعنا نقول انها الادب ....
 
النموذج الثاني / الشاعر مظفر النواب 
  انه واحد من أولئك الذين عانوا من الاضطهاد والتعذيب الممنهج، وبصورة وحشية وغير انسانية من النظام العراقي السابق صدام حسين، ولقد تفجرت قريحته بالاشعار العذبة الجميلة نحو الوطن والجلاد .. صورة الموت، شهوانية الجلاد، المرفا الخالي من السفن، المنفى البارد الجدران، الاستبداد المعمم ... لأزالت لغته تتفجر وتتكاثر مع كل جلاد ياتي ويجلس على كرسي السلطة، واضعا رقاب البشر تحت حذائه، ومظفر كغيره من المبدعين الذين حملوا رسالة الوطن كهم يومي، ووظف لغته عبر تفجيره طاقة من الايحاء الرمزي، وهي المسالة التي تقع في صلب الموضوع، واهتم مظفر باللغة الشعرية بكل ملكاته الابداعية فخرجت روائ الشاعر إلى المتلقي اكثر شفافية واكثر صدأمٍ مع الواقع، فالشاعر يتصرف كالكيميائي الذي لا غاية له سوى تسجيل اغرب الإختلاطات في العناصر و المركبات، وحصر هذه الاحتمالات الكبيرة في سجله، وتمتعه بتوليد مستويات جديدة من التفاعلات المعقدة بين المواد والتراكيب والرموز، رمز أن تتألم وأن تضطهد وأن تصبح وجهٍ عربي يهيم في شوارع ( برلين ) و ( أثينا ) حضارة ليس كحضارتك، وجوه ليس كملامح اهلك، لكنها ملامح آمنة تعطيك الحرية والخبز وبعضاً من النبيذ، يصرخ مظفر في غربته متألم 9 :- الريح من القمة تغتاب شموعي / وأثينا كلها في الشارع الشتوي / ترسي شعرها للنعش الفضي / والأشرطة الزرقاء ... واللذة / هل اخرج للشارع من يعرفني / من يشتريني بقليل من زوايا عينيها / تعرف تنويني .. شدتي .. وضمي .. وجموعي / أي الهي لي امنية أن يسقط القمع بدأ القلب / والمنفى يعودون إلى أوطانهم ثم رجوعي .. إلى اخر القصيدة اتقياء مظفر النواب الحوار النفسي مع الخطاب السياسي في قصيدته المعنونة ( ثلاثة امنيات على بوابة السنة الجديدة ) وبث فيها الطابع الرمزي في اللغة، وهي الاشارة إلى الهجر، فساد السلطة، قمع الافكار، الشوق آلى الحرية، وهذه هي مقتطفات البيئة الطبيعية التي يتأقلم بها المبدع في مجتمعه وهي الحلم الذي يراوده، مثلما عبر عن ذلك في قصيدته 10 ( بكائية على صدر الوطن ) يستعين فيها مظفر بقوة اللغة ويعمل على عمل جرئ في تغيير جوهر العلاقات اللغوية السائدة، فتمكنه من الحصول على معدن جديد من معادن قديمة ... ويستعين بالرمز السميائي وهي مخاطبة السلطة الحديثة بلسان بدوي من العصور القديمة، انه ذلك البدوي الذي غاص في عمق الصحراء وعاش في غربته الموحشة، انه الشاعر يعبر عن همومه وغربته ولأزال المنفى بارداً ورطبٍ، ويتجدد الرمز عند مظفر بتجدد نفسياته ويستعين بعوالم كثيفة من الرموز والأساطير في بيئته المحيطة بالنص الشعري وأن اللجؤ إلى الرمز والاسطورة في النصوص الادبية المعاصرة عبر زمن النص وشفافيته، وهي عملية البحث عن عالم فسيح وجميل ... 
النموذج الثالث / الشاعر محمد عبد الحي 
  الشاعر السوداني محمد عبد الحي من الشعراء الذين اثروا الساحة الادبية السودانية باجمل الاشعار واعزب الكلمات، وله نصيب الأسد من المفردات التشكيلية والخصوصية الايقونية في تاريخ الثقافة السودانية، وتتماه هذه الخصوصية في مخزونها الرمزي المكثف 11 أن تقرا محمد عبد الحي يعني ان تتهيأ إلى طقس له الحضور البهي في سموات نقية، ومطالب أنت باشراع أدواتك المرجعية في زمانها المعرفي والجمالي، وأن تمشي على افق تملأه الإحتمالات يقذف بك صوته الشعري إلى كينونة الحلم والحوار، ويحاصر فيك الوعي والتجربة، يفاجئك بتساولأت الوجودية الكبرى ويفتح عليك النوافذ المطلة على كمياء لغوية خاصة، لها تجلياتها في أبتهالأت الوجد حول دائرة الغار و لهب اخضر من الرموز ...أن اللغة الرؤية الحسية هي لغة تواصل كونية مع اله الكون، مقابل لغة التواصل بين البشر، ومن هنا تكتسب طبيعة عرفانية لطالما جربها الأنبياء والقديسين والشعراء والمتصوفة والعارفين، ويتجلى هذا التواصل في أن الشاعر يتخطى ذأته الفردية وينصهر في حالة علياء، تمحى فيها ثنائية الموضوع، أن عبد الحي يحتفي في قصائده بالرمز الأسطوري كرمز حضاري قومي ثقافي، وقد بلغ هذا الاحتفاء أعلى ذروته في سياق تشكيل قصيدته ( العودة إلى سنار ) وفي قصيدته * ( مروي ) وهذه القصائد وعموم قصائد عبد الحي، تشكل هاجس نقدي لدي النقاد لأن عبد الحي وريث ومطور مرحلة كاملة في أفق الشعر السوداني، التي تعرف ( بالرمز الحضاري ) وهكذا اسس أحدى المفاهيم المفتاحية في حركة الشعر السوداني الحديث، والرمز عند عبد الحي هو طاقة من الايحاء والغموض والامتلاء، ويكون للرمز معاني متعددة وعلى مستويات متفاوتة يدرك منها العنصر الوعي وحده، امأ دون ذلك لا يدرك إلا باللاوعي أو بالحدث، ويكون الشاعر في مرحلة خلق هذه الرموز خلق ماهو سابق على الجنس البشري، وخلود اعماله هذه لا تفنا بفناء جيل، ونجد ذلك في قصيدته ( مروي ) التي يحاول أن يستعين باساطير مملكته مروي و أن يتمسك بتلابيب هذه الحضارة التي شكلت الوجه الثقافي للشاعر :- في القفر وحدي تحت شمس مروي / إقراء في حطام أحجارها السوداء والرخام / انصت للعصفور بين بساتين النخيل / والرمال والصخور مغنياً عبر العصور ... وفي قصيدته الشهيرة ايضاً ( العودة إلى سنار ) * في نهاية النشيد الاول البحر :- الليلة يستقبلني اهلي أهدوني مسبحة من أسنان الموتى / ابريقاً جمجمةٍ مصلاه من جلد الجاموس / ٍرمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس / لغةٍ مثل الرمح من جسد الأرض  وعبر سماء الجرح / الليلة يستقبلني اهلي وكانت الغابة والصحراء / امرأة عاريةٍ تنام على سرير البرق /في انتظار ثورها الالهي الذي يزورها في الظلام .. أن عبد الحي وجد الهوية السودانية التي تجسدها الغابة والصحراء، رمزاً في مملكة سنار الحاضنة الشرعية لهذا المشروع بما فيها من تنوع عرقي وتعدد في الهويات، الذي يمثل التحام الروح بالجسد وميلاد الأفرو عرب وحتى ميلاد السحنة السودانية المميزة، وجميع هذه الرموز التي تورق الشاعر هي رموز تخدم قضية الهوية وتقف عند الاسئلة الكبرى، التي يطلقها عبد الحي ببراءة شاعر مصاب بلعنة البحث عن هوية امة، ولأزال يصرخ عند عودته إلى سنار :- إفتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة / بدوي أنت / من بلاد الزنج / لا أنا منكم تأئه عاد يغني بلسان / ويصلي بلسان / محاضراً تهت سنيناً / مستعيراً لي لساناً وعيوناً ... أن تجربة عبد الحي الشعرية خطت مغامراتها بلغة معاصرة رغم أن قصائده من حقبة الستينات، أي نبوة هذه عندما يبكي اطلال مدينته الفاضلة ( سنار ) مثلها مثل مشروع القومية العربية ( البركسيس ) لدي الشاعر اللبناني خليل حاوي الذي نحن بصدده، ويردد عبد الحي :- اليوم يا سنار أقبل فيكِ أيامي / بما فيها من العشب الطفيلي / الذي يهتز تحت غصون أشجار البريق / اليوم أقبل بما فيها الرعب المخمر في شرأيني / ومأ فيها من الفرح الطفولي العميق ... انه يؤدي دور الممثل التراديجي الذي يحاكي واقعنا الحاضر، ويستشرف مستقبل امة برمتها في هذا الوقت بالتحديد، هل وجد الوطن الهوية ؟؟ 
النموذج الرابع / الشاعر خليل حاوي
أنه الشاعر المرهف الذي مات منتحراً غداة الساعات الاولى من صباح الاجتياح الاسرائيلي لمدينته بيروت، بعد ان اطلق على صدغه رصاصة مخلفاً وراه طوفانا من الاسئلة، والاغرب ليس هذه المرة الاولى، لقد حاول الشاعر قبل ذلك الانتحار ثلاثة مرات .. إذا كان محمد عبد الحي الصوفي العارف للاله المنزه المتعالي قد غدا أرضاً قومية، لدعوته لبعث الحضارات الانسانية التي انقرضت من الوجود، فاننا نجد عند خليل حاوي أستخدامٍ نارياً للرمز التموذي الذي تضرب جذوره في الارادة السدومية، وخليل شاعر حسي بمعنى من المعاني، وانه يتجاوز الحس إلى ميتافيزيائيته وهو مشبع في الأن الذي يكشف ابعادها الانطولوجية الخفية، لعل ذلك يفسر لنا حسيته وميتافيزئيته في أن واحد، وهو ما يطرح رؤاه الشعرية بالمادة وذلك يفسر لنا هيمنة الطابع الحسي على اغلب رموزه على مستوى البنية الظاهرية، والسطحية، أو اللفظية للقصيدة واشعاعها، بدلآلآت ميتافيزيائية وانطولوجية واسطورية وحضارية لا محدودة على مستوى البنية العميقة أو التوليدية، فتتحرر اللغة الحسية الظاهرة في هذا السياق الرؤى الرمزي الديناميكي من المعنى، وتتجه لتوليد أثر دلالي مركب ومتعدد بالعوالم الميتافيزيائية للمادة، يتخطى محدودية المعنى وحدوده الشاسعة، وهذا مأ نتبينه من خلال الطاقة الارجاعية، والارجاع تعريفاً ( هو قدرة الاشارة اللغوية في عملية القراءة على استدعاء غيرها بشكل تكون فيه اشارة سيميولجية ) مثلما نجد في قصائده رموزاً متكررة وبشكل متواتر مثل :- الملح، الجسر، النار، الارض، الطين، العروق، الغيث، الشمس، الجلاميد، الجليد، الكهوف، العنكبوت، الى اخره وكل هذه الاشياء من جماد أو كائن حي شكلت بالمعنى السيميولوجي رموز دلالية ارجاعية متواترة على نحو كثيف في شعر خليل، وميزت في الوقت نفسه معجمه الشعري مثله مثل محمد عبد الحي، الذي يبني صرحه الرمزي على :- البحر، الليل، الطيور، الشمس، الغروب، الافق، ومملكة، لهب، غمام، بريق، إلى اخره وبينما نقراه احدى قصائد خليل ونتأمل استخدامات الرمز لديه، ندرك جيداً التواصل الروحي الموجود بينهما كما في قصيدة ( البحار والدرويش ) فهو ليس كاهن بوذي بل رسول ( ملكارتي ) وقد تقمص ذات رب العهد، فيحن الرائي إلى انبعاث الارض من جديد بواسطة بعلها الالهي القديم 12 :- لن تموت الارض ان متم لها بعلها الهي قديم / طالما حنت اليه محبر ليل العقم / انثي والهة فضها البعل و رأوها / فغصت بالرجال الالهة .... وفي القصيدتين، العودة إلى سنار لمحمد عبد الحي والبحار والدرويش، تمتص القصيدتين الاليات الرمزية الديناميكية للصورتين الاسطوريتين للقوة الكونية الالهية المذكرة، المتمثلة عند حاوي في ( البعل المكارتي ) وعند عبد الحي في ( الثور الالهي ) والقوة الكونية الالهية المؤنثة ممثلة في الارض أي ( عشتار ) في الصورة الخفية، بمعنى ان البعل أو الثور هو الزوج للارض، الانثى الوالهة التي تحن إلى ماء زوجها، عبر ليلٍ عقيم فيفض بما تثيره، واشارة الفض هنا من الاشارات السيميولجية التي ( تأنسن ) الارض وتجعلها ذات بكارة، ويرويها البعل لتغص بالرجال الالهة المنقذين للحضارات الانسانية ... ومثلما الارض رمزاً للخصوبة عند حاوي فانه يجعل الملح رمزاً للعقم، مثل التفاتة امرأة ( لوط ) التي ينجيها الرب ويحولها إلى عمود من الملح، ويقول في قصيدة ( عودة إلى سدوم ) 13 :- عبرتنا محنة النار عبرتنا هولها قبراً فقبرا / وتلفتنا إلى ما كان لنا بيتٍ وسماء وذكرى /فاذا اضلاعنا صمت الصخور وفرغ ميت الافاق صحراء / اذا نحن عواميد من الملح / مسوخ بلاهات السنين .. وجميع هؤلاء الشعراء لهم رؤيا تتجلى امامهم بالتوليد والبعث، أي أن يكون لهذه الرواء رد فعل  كلي قادر مؤلهن، وهو رد فعل ينجلي في أثار دلالية، انبعاثيه نشورية ذات أبعاد حضارية، انهم ينشدان العودة إلى جذورهم واصولهم الاولى، بجانب المناجاة لخلق جيل من صلب تلك الحضارات، متمثلة في الامة التي تنبعث من جديد، ومشروع الانبعاث هذا عند هؤلاء الشعراء يكشف عن موت اخطر موأتاً من الموت نفسه، انه الموت القومي العربي وما انتهى اليه ( البركسيس ) اليوم من نهايات معكوسة مذلة مهينة، وتبدو فيها الحياة والامة برمتها ذليلة لا تطاق .... والخيار في موضوع الرمز في النص الادبي وقع في الشعر دون المساقات الادبي الاخرى، لان الشعر من اقدم الاداب، وكانت الشعوب القديمة تعتبره جزء من اعلام مجتمعهم مثما في العصر الجاهلي كان الشعر هو السمة الاساسية في حياتهم، وذلك لكون عدم وجود حياة جادة سوى افتعال الحروب ونهب القوافل، و التباري في المطارحات الشعرية في الفحولة والهجاء، والجلوس في الخمارات، والتغزل في الجواري والغلمان، حسب النصوص التاريخية العصر الجاهلي 14 اذن فالشعر أتي نتيجة لبنية ثقافية ضعيفة، أتى تبعاً لها ولم تأتي تباعاً له،لذلك اصبح الشعر يمتلك مقدرة هائلة في تكوين العقلية العربية، وفي صياغة ذوأت المجتمعات العربية المتخلفة ثقافياً، وحتى اصبح نصاً مقدس يفوق النصوص المقدسة، والجيوش المجهزة، ويظهر ذلك جلياً من الاتهام الوجه للشعر، بمسؤوليته عن اختراع الفحل وصناعة الطاغية، واتهام ( المتنبي ) على مر العصور بانه شحاذ، و ( ابى تمام ) بوصفه شاعراً رجعياً، ونزأر قباني الفحل الذي لا يرى احداً، ومظفر النواب الذي لازالت اشعاره في خانة المحظور وممنوعة من النشر في الصحف العربية، لأنها نص ضد السلطة، ومثل هؤلاء كثيرون جميعهم تناولوا القيم الانسانية والحكمة، ونقد الانساق العربية المتخلفة سياسياً واجتماعياً، وهؤلاء الشعراء لهم صفة مشتركة هي القلق الدائم والأسئلة المتجددة التي تجعل النص محلقاً في اللايقين، وفي اللاحدود وفي اللاسقف، لقد جسدا علاقة النص بالبيئة من حول الانسان، فخلقت اشعارهم تؤتر درامي في نبض الذاكرة، وخرجت نصوصهم الى الواقع بفضاء اللغة الواسع، لتشتبك مع الذات الشاعرة، الجرح بالجرح ذلك الجرح الذي يعبر مساحات شاسعة من الماضي، ليندرج في دفء البوح حتى حين يخفت ذلك التؤتر، لينصهر بالروح الهائمة بين الرغبة وتقطعاتها، بين الفتنة وتحولاتها ومأ بين الحب والحب، وهذا الاخير لا يعرف نهاية، وكل مأ لا يعرف نهاية لا يموت، فكيف اذا اتحد بوطن، هل البحث عن هوية يقتل وطن ..... ؟؟؟؟ 

الفهرس

1: كلود ليفي أستروس - صاحب كتاب ( اسطوريات ) وكتاب ( الافاق الحزينة )
2 : جاك لأكان وبناء الشعور - مقال للكاتب د. احمد ابو زيد - مجلة العربي العدد 1 8 2 ابريل 3 8 9 1 
3 : ميشيل فوكو - مقدمة كتاب - اركيولوجية المعرفة - إصدار دار الادأب بيروت - لبنان
4 : جاك دريدأ - صاحب مدرسة - استراتيجية التفكيك - ومؤلف كتاب - الكتابة والإختلاف
5 : بول ريكير - كتاب - التأويلات في الهرمنيوطيقا
6 : نفس المصدر - لبول ريكير
7 : قصيدة ابى تمام - لنزار قباني - القيت في مهرجان الموصل - العراق عام 3 8 9 1 
8 :سلطة اللغة - مقال د. احمد الصادق مجلة الخرطوم الثقافية العدد 7 1 - يوليو 0 9 9 1 
9 :الاعمال الكاملة للشاعر مظفر النواب - دار الفكر - بيروت - لبنان
10 :نفس المصدر السابق - لمظفر النواب
11 :نموذج العودة إلى سنار - مقال للكاتب عادل سعد يوسف - مجلة الخرطوم الثقافية العدد 7 1  - يوليو 0 9 9 1 
ص 8 4 
12 :قصيدة البحر والدرويش - للشاعر خليل حاوي - مختارات من شعره ونثره - دار الثقافة - بيروت - لبنان حزيران 1 8 9 1
13 :قصيدة العودة إلى سدوم - للشاعر خليل حاوي - نفس المصدر السابق
14 :عبد الكريم خليل - كتاب مجتمع يثرب - سيناء للنشر الطبعة الاولى - 7 9 9 1  - ص 8 
* مروي حضارة سودانية قديمة كانت قائمة قبل 7 الف سنة قبل الميلاد
* سنار - مدينة سودانية كانت عاصمة السلطنة الزرقاء في القرن 4 1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق