السبت، 26 أكتوبر 2013

الخطاب

                                             الخطاب

خرج من بين الأزقة في سرعة البرق، وهو يتلفت حوله بخوفٍ ورعب عيناه بهما مسحة حزن قديم، ودفء غامض مثل كتاب من الطلاسم، يحمل في يده اليمنى خطاب متسخ به بعضاً من بقع الزيت، يتشبس به، يطبق عليه باصابعه بقوة وحرص شديدين، كان يمشي بخطواتٍ مسرعة، يلتوي ويتعرج مع الطريق، يسير نحو الأفق، صوت أنفاسه تعلو وتهبط بايقاع منتظم، يتصبب العرق من جسده بغزارة، يختلط مع الرطوبة التي تنبعث من الأزقة، يشعر بضيق .. ملابسه تلتصق بجسده يشعر بجسده لزج مثل جسد ثعبان بدأ الظلام في الزحف ببطء نحو البحر، والأفق ينزف لونه الناري ... اخذ يتحدث مع دواخله ويتسأل :- هل ستشهد الارض جرائم السماء ؟؟ القطط تهرب من امامه في حالة تسكعيه .. تزداد ضربات قلبه يحاول أن يروض توتره، يأتي إلى اسماعه صوت محرك عربة يئن، لقد تذكر بلدته تلك البلدة التي تقبع وسط الصحراء في أقصى الشمال، عندما تعبرها البصات السفرية، تصدر اصواتاً أقرب للنواح من الأنين ... يتمسك بالخطاب يغمره إحساس بانه يتشبس بروحه، ماضي مؤلم بعذابات العشق ومستقبل ضائع وسط متاهات الشوق .. أنحنى على ماء البحر وهو ينظر إلى القاع بشعبه المرجانية وعالم كائناته الساحر، تذوق بطرف لسانه قطرات عرقه الذي يتصبب من وجهه .. يا لها من افرازات مالحة مثل ماء البحر، ينتفض مذعوراً ... صوت ( برميلٍ ) حديدي يسقط فيحدث ضجة عالية .. يتقوقع في احدى الأركان، رائحة بول تفوح بشدة، انهم يتبولون كالكلاب .... ! يسقط الخطاب من بين يديه، يبحث عنه باهتمام غير عادي، تجحظ عيناه يدور حول نفسه كأنه ملدوغ من عقرب سامة، وبعد ان اوشك ان يستنفد قواه عثر عليه بين صناديق القمامة .. ينتفض يشعر برعشة تسرى في جسده، ينتشي لها جسده النحيف ... اصوات اقدام على الأسفلت تزرع الطريق ذهاباً واياباً في خطوات عسكرية منتظمة .. اخذ يردد :- يجب ان اصل إلى نقطة النهاية، رددها باصرار وتحدي ... صوت صراخ حاد جعله يلتفت خلفه في خوف، انه قط يداعب قطة لكنها لا ترضخ لصرخاته ردد في دواخله :- انه الم مفعم بالرغبة حقاً انها رغبة متوحشة ... بصق على الأرض باستنكار وخجل .. سمع صوت طلقات نارية قادمة من غرب المدينة، يكاد ان يختنق من التوتر .. لابد ان اكمل مهمتي .. أبتسم إبتسامة باردة ... انه عشق مجنون في قاعدة المنطق .. صورتها تستبيح ذاكرته في تلقائية مفرحة .. نظر إلى عقارب ساعته، تشير إلى الثانية عشر مساءٍ .. يجب أن لا أتاخر دقيقة واحدة في هذا العصر تصنع عصر اخر .. ضباب في كل مكان حول السفن والقوارب والمطاعم البحرية فوق اعلام السفن، رائحة الاسماك المتعفنة تصطدم بانفه بقوة ... ادرك بانه اقترب من الموقع .. رددها في دواخله اهه انه على بعد خطوات من هنا، قالها وكانه يستنفذ احساسه ... فجاة وقف امامه جندي مدجج بالسلاح وصرخ فيه ... قف مكانك .. ياله من تعطيل للزمن خمسة عشر عاماً وانا ابعث بالرسائل في موعدها، لم أتاخر يوم .. رددها بامتعاض، انتشر الجنود حوله بحذر وهم يصوبون بنادقهم باتجاهه ... تقدم نحوه ضابط برتبة ملازم نظر اليه في عينيه الممتلئتان خوف ورهبة ... قال له :- انت متهم بنشر منشورات معادية للدولة والنظام .. جحظت عينيه هرب منهما الدفء والامان المستوطن داخلهما ... لم يعد يشعر بشيء، صاح فيه الضابط .. سقطت ايها الفار .. يعامل معاملة كلب عض صاحبه، الأم في كل مكان من جسده، تحسس راسه وجده متورم، ضرب مبرح وركل بالأقدام .... سحب الضابط الخطاب من بين يديه بخشونة وبطريقة درامية مثل تلك الطريقة التي تلتبس العسكريين عندما يشعرون بالنصر، شيء من الزهو والكبرياء الزائف ... فتح الضابط الخطاب سقطت قبعته التف حوله الجنود بسرعة البرق، مخالفين كل النظم العسكرية ... فما اجمل النصر عندما يكون ساخناً ..قالها احد الجنود وهو يتنفس بارتياح .. أشرابت عناقهم في الخطاب، اخذ يقراءه احد الجنود بصوت عالي ولغة ركيكة، كان يستمتع بغبائه ... هيفاء عودي للوطن لا اعرف اين انتِ، في كل مساء احضر إلى الميناء حيث كنا نلتقي ابعث لكِ خطاباً داخل زجاجة، لا اعرف مكانك لكن حتماً يوم ما سوف تصلك رسالة ... انا في كل مساء اسمع همساتك التائهة مع الرياح .. لازالت الشمس هنا تشرق في موعدها، ضؤها ساطع لونه شاحب كالصحراء ... اريدك معكِ وحدك استطيع أن اخفض وزن الأمي واتحرر من جسدي وتلتئم جروحي، حرري هذا الحب من بوتقة اليأس واللامعقول عودي للوطن إحساسي كله في استعداد لاحتواء وهضم امواجكِ الهادرة ... رسالة رقم ستة عشر .. ظهرت اضواء ساطعة في الافق، الماء اصبح بطعم الدم ورائحة البارود .. صوت اجراس الكنائس يختلط الرصاص ..ويأتي اقرب أقرب .. يهرب الى البحر، زلزلت الأرض تحت اقدامه، تنفجر دوامة ماء تصعد إلى اعلى الى السماء .. أصوات ترانيم جنائزية تحاصر المكان من جميع الإتجاهات ... تلاشا من الوجود، لم يعد موجود في الواقع ... صراخه يأتي صداً قاتل .. هيفاااااااااااااااااااااااء


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق